Close Menu
الساعة الآن 03:44 AM

منتديات ياكويت.

للتسجيل إضغط هنا

أدوات الموضوع
إضافة رد

Anwar

:: منسق إداري ::

بحث عن طه حسين

السلام عليكم

[hide]
طه حسين (1889-1973 )


ولد طه حسين عام 1889 ، وعاش طفولته الباكرة في احدى قرى الريف المصري . ثم انتقل الى الازهر للدراسة ، ولم يوفق فيه، فتحول الى الجامعة المصرية ، وحصل منها على الشهادة الجامعية ، ثم دفعه طموحه لاتمام دراساته العليا في باريس ، وبالرغم من اعتراضات مجلس البعثات الكثيرة ، الا انه اعاد تقديم طلبه ثلاث مرات ، ونجح في نهاية المطاف في الحصول على شهادة الدكتوره في باريس. بعد عودته لمصر ، انتج اعمالاً كثيرة قيمة منها على هامش السيرة ، والايام ، ومستقبل الثقافة في مصر ، وغيرها. وهو يعتبر بحق "عميد الادب العربي" نظراً لتاثيره الواضح على الثقافة المصرية والعربية.

وقد نشر الجزء الاول من الايام في مقالات متتالية في اعداد الهلال عام 1926 ، وهو يُعد من نتاج ذات المرحلة التي كتب خلالها : في الشعر الجاهلي. وتميزت هذه الفترة من حياة الاديب الكبير - رحمه الله - بسخطه الواضح على تقاليد مجتمعه وعاداته الشائعة في كتاباته . ومن المؤكد ان لهذه المرارة دوافعها : فطه حسين فقد البصر صغيراً بسبب جهل اسرته باسس الرعاية الصحية. وهي خسارة فاحشة لا يمكن تعويضها . وقد رفض المجتمع المصري المحافظ الكثير من ارائه في موضوعات مختلفة حين رجوعه من فرنسا كذلك.

لهذه الاسباب وغيرها ، يعتبر الايام سيرة ذاتية تعبر عن سخط كاتبها بواقعه الاجتماعي ، خاصة بعد ان عرف الحياة في مجتمع غربي متطور . الاجزاء التي اخترناها هنا تصف مرحلة مهمة في حياة طه حسين الفكرية : اذ ترسم صورة حزينة لمساعيه للدراسة في الازهر، موضحةً اعتراضاته على نظام التعليم الشائع فيه آنذاك، واسباب عدم نجاحه في الحصول على الشهادة التي نجح من هو اقل منه شأناً وعلماً في امتلاكها.

من الأيام

واقبل صاحبنا على دروسه في الازهر وغير الازهر من المساجد . فأمعن في الفقه والنحو والمنطق ، واخذ يحسن "الفنقلة" التي كان يتنافس فيها البارعون من طلاب العلم في الأزهر على المنهج القديم ، ويسخر منها المسرفون في التجديد ، ولا يُعرض عنها المجددون العتدلون . واذا هو يدرس شرح الطائي على الكنز مصبحاً ، والازهرية مع الظهر ، وشرح السيد الجرجاني على ايساغوجي ممسياً . وكان يحضر الدرس الاول في الازهر ، والدرس الثاني في مسجد محمد بك ابي الذهب ، والدرس الثالث في مسجد الشيح العدوي على استاذ من سلالة الشيخ العدوي نفسه . وربما الم بدرس من دروس الضحى كان يُقرأ فيه كتاب قطر الندى لابن هشام تعجلاً للتعمق في النحو والفراغ من كتب المبتدئين والوصول الى شرح ابن عقيل على الالفية . ولكنه لم يكن يواظب على هذا الدرس . كان يستجهل الشيخ ، ويرى في "فنقلة" الشيح عبد المجيد الشاذلي حول الازهرية وحاشية العطار ما يكفيه ويرضيه.

وقد بقيت في نفسه آثار لا تمحى من درس الازهرية هذا ، ففيه تعلم "الفنقلة" حقاً ، وكان اول ذلك هذا الكلام الكثير والجدال العقيم حول قول المؤلف "وعلامة الفعل قد" ، فقد اتقن صاحبنا ما اثير حول هذه الجملة البريئة من الاعتراضات والاجوبة ، واتعب شيخه جدالاً وحواراً حتى سكت الشيخ فجأة اثناء هذا الحوار ، ثم قال في صوت حلو لم ينسه صاحبنا قط ، ولم يذكره قط الا ضحك منه ورق له : "الله حكم بيني وبينك يوم القيامة ". قال ذلك في صوت يملؤه السأم والضجر ، ويملؤه العطف والحنان ايضاً. وآية ذلك انه بعد ان اتم الدرس واقبل الصبي ليلثم يده كما كان الطلاب يفعلون ، وضع يده على كتف الصبي ، وقال له في هدوء وحب: "شد حيلك الله يفتح عليك."

وعاد الصبي مبتهجاً بهذه الكلمات والدعوات ، فأنبأ بها اخاه وانتظر بها اخوه موعد الشاي . فلما اجتمع القوم الى شايهم قال للصبي مداعباً : قرر لنا "وعلامة الفعل قد". فامتنع الصبي حياء اول الامر ، ولكن الجماعة الحت عليه ، فأقبل يقرر مما سمع وما وعى وما قال ، والجماعة صامتة تسمع له ، حتى اذا فرغ نهض اليه ذلك الكهل الذي كان ينتظر الدرجة فقبل جبهته وهو يقول : "حصنتك بالحي القيوم الذي لا ينام."

واما الجماعة فاغرقت في الضحك . واما الصبي فاغرق في الرضا عن نفسه ، وبدأ منذ ذلك الوقت يعتقد انه اصبح طالباً بارعاً نجيباً.

وقوى هذا الرأي في نفسه ان زملاءه في درس النحو التفتوا اليه وجعلوا يستوقفونه بعد الدرس ، او يدنون منه قبل الدرس ، فيسألونه ويتحدثون اليه ، ثم يعرضون عليه ان يعدوا معه الدرس قبل الظهر. وقد اغراه هذا العرض فترك درس القطر ، وجعل يطلع مع زملائه هؤلاء يقرءون له وياخذون في التفسير ، وجعل هو يسبقهم الى هذا التفسير ويستبد به من دونهم ، فلا يقاومونه وانما يسمعون منه ويصغون اليه . وجعل ذلك يزيده غروراً الى غرور ، ويخيل اليه انه قد بدأ يصبح استاذاً.

واطردت حياته في ذلك العام متشابهة لا جديد فيها الا ما كان يفيده الصبي من العلم كلما امعن في الدرس ، وما كان يشعر به من الغرور اذا كان بين زملائه ، وما كان يُرد اليه من التواضع اذا كان بين اولئك الطلاب الكبار ، والا ما كان يفيده من العلم بشؤون الاساتذة والطلاب في الازهر لما كان يسمع من حديث زملائه واصدقاء اخيه عن اولئك وهؤلاء .

فلم يكن شيء من هذه الاحاديث ليحسن ظنه باولئك او هؤلاء ، وانما كان ظنه يزداد بهم سوءاً كلما مر عليه الوقت . فقد كان يسمع بين وحين ثناء بالذكاء والبراعة على هذا الشيح او ذاك من صغار العلماء وكبارهم ، ولكنه كان يسمع دائماً عيباً لاولئك وهؤلاء بالوان من النقائص التي تتصل بالخلق او تتصل بالسيرة او تتصل بصناعة العلم نفسها ، والتي كانت تثير في نفسه كثيراً من الغضب والازدراء وخيبة الامل .

ولم يكن يسلم من هذه العيوب احد . فاما هذا الشيخ فقد كان شديد الحقد على زملائه واقرانه ، شديد المكر بهم والكيد لهم ، يلقاهم مبتسماً فلا يكاد يفارقهم حتى يقول فيهم اشنع القول ويسعى بهم اقبح السعي. واما هذا الشيخ الاخر فقد كان رقيق الدين ، يظهر التقوى اذا كان في الازهر او بين اقرانه ، فاذا خلا الى نفسه والى شياطينه اغرق في اثم عظيم .

وكانت الغيبة والنميمة اشيع واشنع ما كان يُذكر من عيب الشيوخ. فكان الطلاب يذكرون سعي ذلك الشيخ بصديقه الحميم عند شيخ الازهر او عند الشيخ المفتي ، وكانوا يذكرون ان شيخ الازهر كان اذناً للنمامين ، وان الشيخ المفتي كان يترفع عن الاستماع لهم ويلقاهم بالزج القاسي العنيف.

وقد تحدث الطلاب الكبار ذات يوم بقصة عن جماعة من كبار الشيوخ سموهم يومئذ ، فزعموا ان هؤلاء الشيوخ لاحظوا انهم قد اسرفوا على انفسهم في الغيبة ، فأستعظموا ذلك وذكروا قول الله عز وجل : "ولا يغتب بعضكم بعضاً ليحب احدكم ان ياكل لحم اخيه ميتاً فكرهتموه"، فتناهوا عن هذه الخطيئة الكبيرة ، وتعاهدوا على ان من اخذ منهم في الغيبة فعليه ان يؤدي الى اصحابه عشرين قرشاً .

وقد كفوا عن الغيبة يوماً او بعض يوم ضناً بهذا المبلغ من النقد . وانهم لفي بعض حديثهم ، واذا شيخ يمر بهم فيلقي عليهم تحية ، ويمضي في طريقه. ولكنه لا يكاد يمضي حتى يخرج احدهم قطعة من الفضة فيدفعها الى اصحابه وياخذ في اغتياب هذا الشيخ.

فاما تحدث الطلاب كباراً وصغاراً بجهل شيوخهم وتورطهم في الوان الخطأ المضحك الذي كان بعضه يتصل بالفهم وبعضه يتصل بالقراءة ، فقد كان اكثر من ان يحصى واعظم من ان يقدر . ومن اجل هذا كان صاحبنا سيء الرأي في العلماء والطلاب جميعاً . وكان يرى ان الخير كل الخير في ان يجد ويجتهد ويحصل ما استطاع من العلم معرضاً عن مصادره التي كان يستقيه منها .

وازداد رايه سوءاً حين استقبل السنة الثالثة من حياته في الازهر ، فالتمس لنفسه استاذاً يقرأ في الفقه شرح مُلا مسكين على الكنز ، فُدل على استاذ معروف بعيد الذكر ظاهر المكانة في القضاء ، فذهب اليه وجلس في حلقته ، ولكنه لم يكد ينفق دقائق حتى احس حرجاً عظيماً وراي نفسه مضطراً الى ان يبذل جهداً شديداً لمقاومة الضحك . وذلك ان الشيخ رحمه الله قد كانت له لازمة غريبة ، كما كان يقول الازهريون . فلم يكن يقرأ جملة في الكتاب او يفسرها من عند نفسه الا قال هذه الجملة مرتين : "قال ايه ثم قال ايه”

يعيد ذلك مرات في الدقائق القليلة ، وصاحبنا يسمع له ويعنف على نفسه حتى لا يضحك فياتي منكراً من الامر.

وقد استطاع صاحبنا ان يضبط نفسه ، ولكنه لم يستطع ان يختلف الى درس الاستاذ اكثر من ثلاثة ايام ، لانه لم يجد عنده غناء ، وانما وجد عنده عناء ، لم يفد منه شيئاً ، وانما كان يكظم ضحكه كظماً عنيفاً ، ويكلف نفسه من ذلك ما لم تكن تطيق . والتمس غيره من الاساتذة الذين كانوا يقرءون هذا الكتاب ، فلم يجد عندهم الا هذه اللوازم التي كانت تختلف باختلافهم ، ولكنها كانت تدفع الغلام الى الضحك وتضطره الى ان يبذل في ضبط نفسه من الجهد ما كان يشغله احياناً عن الاستماع ، وقيل له في اثناء ذلك ان هذا الكتاب من كتب الفقه ليس بذي خطر ، وان استاذاً ممتازاً سموه له يقرأ كتاب الدرر ، والخير في ان تحضر درسه ، فهو من اذكى العلماء وابرع القضاة .

واستشار صاحبنا اخاه واصحاب اخيه فلم يردوه عن ذلك ، بل شجعوه عليه واوصوا به الشيخ . وقد رضى الغلام عن استاذه الجديد في دروسه الاولى ، فلم يكن يلتزم جملة بعينها او لفظاً بعينه او صوتاً بعينه ، ولم يكن يتردد في القراءة ولا في التفسير، وكان ذكاؤه واضحاً ، واتقانه للفقه متقناً ، وحسن تصرفه فيه لا يتعرض للشك .

وكان الاستاذ رشيقاً انيقاً حلو الصوت ممتازاً في حركته وفي لقائه للطلاب وحديثه اليهم . وكان معروفاً بالتجديد ، لا في العلم ولا في الرأي ، ولكن في السيرة. وكان كبار الطلاب يتحدثون بانه يلقي درسه اذا صبح ثم يمضي الى محكمته فيقضي فيها ، ثم يروح الى بيته فيطعم وينام . فاذا كان الليل خرج مع لذاته فذهب الى حيث لا ينبغي ان يذهب العلماء ، وسمع من الغناء ما لا ينبغي ان يسمع العلماء ، واقبل من اللذات على ما لا ينبغي ان يقبل عليه رجال الدين ، وكانوا يذكرون "الف ليلة وليلة". فيعجب الغلام لانه كان يعرف ان "الف ليلة وليلة" اسم كتاب طالما قرأ فيه ووجد في قراءته لذة ومتاعاً . ولكنهم كانوا يذكرون هذا الاسم على انه مكان يسمع فيه الغناء ، ويكون فيه اللهو ، وتطلب فيه بعض اللذات .

وكان الغلام يسمع عن شيخه هذه الاحاديث فلا يصدقها ولا يطمئن اليها ، ولكنه لم ينفق مع الشيخ اسابيع حتى احس منه تقصيراً في اعداد الدرس ، وقصوراً في تفسير النص ، وضيقاً باسئلة الطلاب ، بل احس منه اكثر من ذلك ، فقد ساله ذات يوم عن تفسير بعض ما كان يقول فلم يجبه الا بالشتم . وكان الشيخ ابعد الناس عن الشتم واشدهم عنه ترفعاً .

فلما قص الغلام على اخيه واصحابه من امر الشيخ ما راى ، انكروا ذلك واسفوا له ، وهمس بعضهم لبعض بان العلم والسهر في "الف ليلة وليلة" لا يجتمعان.

وكان حظ الغلام في النحو خيراً من حظه في الفقه ، فقد سمع القطر والشذور على الشيخ عبد الله دراز رحمه الله ، فوجد من ظرف الاستاذ وصوته العذب وبراعته في النحو ومهارته في رياضة الطلاب على مشكلاته ما زاده في النحو حباً.

لكن حظه في النحو لم يلبث ان ساء حين استؤنفت الدراسة في العام الجديد . فقد اخذ الغلام يسمع على الشيخ عبد الله دراز شرح ابن عقيل ,. وبينما الاستاذ وطلابه ماضون في درسهم ، راضون عن عملهم ، صدر الامر الى الاستاذ بالانتقال الى معهد الاسكندرية . فمانع في ذلك ما استطاع ، ومانع طلابه ما استطاعوا ، ولكن المشيخة لم تسمع له ولا لهم . فلم يجد بداً من انفاذ الامر . ولم ينس الغلام ذلك اليوم الذي ودع الاستاذ فيه طلاببه ، وانه ليبكي مخلصاً ، وانهم ليبكون مخلصين ويشيعونه باكين الى باب المسجد.

ثم اقيم مقام الشيخ، شيخ آخر ضرير ، وكان مشهوراُ بالذكاء الحاد والتفوق الظاهر والنبوغ الممتاز ، وكان لا يذكر الا اثنى عليه ذاكروه والسامعون لذكره بهذه الخصال . اقبل هذا الشيخ ، فاخذ الدرس من حيث تركه الشيخ عبد الله دراز . وكانت حلقة الشيخ عند الله دراز عظيمة تملا رقعتها القبة من مسجد محمد بك ابي الذهب. فلما خلفه هذا الشيخ ازدادت هذه الحلقة ضخامة واتساعاً حتى اكتظ بها المكان . القي الشيخ درسه الاول فرضي عنه الطلاب ، ولكنهم لم يجدوا عنده وداعة استاذهم القديم ولا عذوبة صوته . ثم القى درسه الثاني والثالث ، واذا الطلاب ينكرون منه رضاه عن نفسه واعجابه بها ، وثقته بما كان يقول ، وغضبه الحاد على مقاطعيه .

ولم يكد يتقدم في درسه الرابع حتى كانت بينه وبين صاحبنا قصة صرفت الغلام عن النحو صرفاً . كان الشيخ يفسر قول تأبط شراً:

فابتُ الى فهم وما كدت آثبا وكم مثلها فارقته وهي تصفر

فلما وصل الى قرله "تصفر" اقل : ان العرب كانت اذا اشتدت على احدهم ازمة او محنة وضعوا اصابعهم في افواههم ونفخوا فيها ، فكان لها صفير يسمع .

قال الغلام للشيخ : واذن فما مرجع الضمير في قوله "وهي تصفر" وفي قوله"وكم مثلها فارقتها؟" قال الشيخ مرجعه "فهم" ايها الغبي. قال الغلام: فانه قد عاد الى فهم والبيت لا يستقيم على هذا التفسير. قال الشيخ : فانك وقح وقد كان يكفي ان تكون غبياً . قال الغلام : ولكن هذا لا يدل على مرجع الضمير. فسكت الشيخ لحظة ثم قال: "انصرفوا ، فلن استطيع ان اقرأ وفيكم هذا الوقح."

ونهض الشيخ ، وقام الغلام ، وقد كاد الطلاب يبطشون به لولا ان حماه زملاؤه.

ولم يعد الغلام الى درس النحو ، بل لم يحضر الغلام بعد ذلك درساً في النحو ، بل ذهب من غده الى درس كان يلقيه استاذ معروف من اهل الشرقية . وكان يقرأ شرح الاشموني ، ولكنه لم يتم الاستماع للدرس. مضى الشيخ يقرأ ويفسر ، وسأله الغلام في بعض الشيئ ، فرد عليه الشيخ بما لم يقنعه . فاعاد السؤال ، فغضب الشيخ وامره بالانصراف. فتوسط بعض اصدقائه عند الشيخ يستعطفونه ، فازداد غضب الشيخ وابى ان يمضي في الدرس ختى يقوم هذا الغلام ومعه اصدقائه ,. ولم يكن لهم بد من ان ينصرفوا.

وذهب الغلام من غده مع اصحابه الى حلقة اخرى كان يُقرا فيها شرح الاشموني ، يقرؤه استاذ مشهور من اساتذة الشرقية ايضاً . فوقف الغلام على الحلقة لحظة لا تتجاوز الدقائق الخمس ، ولكنه سمع فيها هذه اللزمة يعيدها الشيخ كلما انتقل من جملة الى جملة "اخص على بلدي". فضحك الغلام وضحك اصدقاؤه وانصرفوا . وازمع الغلام وصديق له ان يدرسا النحو مستقلين ، وان يدرساه في مصادره الاولى ، فقرآ كتاب المفصل للزمخشري ، ثم كتاب سيبويه ، ولكن هذه قصة اخرى.



ولم يكن حظه في المنطق خيراً من حظه في الفقه والنحو . لقد احب المنطق حباً شديداً حين كان يسمع شرح السيد على ايساغوجي من استاذه ذلك الشاب في العام الماضي. فاما في هذا العام فقد جلس لامثاله من اوساط الطلاب علم من اعلام الازهر الشريف ، وامام من ائمة المنطق والفلسفة فيه ، وكان معروفاً بين كبار الطلاب بهذا الذكاء الظاهر الذي يخدع ولا يغني شيئاً ، وكان معروفاً بهذه الفصاحة التي تبهر الاذن ولا تبلغ العقل . وكان يؤثر عنه انه كان يقول "مما من الله علي به اني استطيع ان اتكلم ساعتين فلا يفهم احد عني شيئاً ولا افهم انا عن نفسي شيئاً . " كان يرى ذلك مزية وفخراً . ولكن لم يكن بد للطالب الذي يقدر نفسه من ان يجلس اليه ويسمع منه . وقد جلس للطلاب بعد صلاة المغرب يقرأ لهم شرح الخبيصي على تهذيب المنطق . وذهب اليه صاحبنا وسمع منه درساً ودرساً ، وكانت حلقته عظيمة حقاً تكتظ بها القبة في جامع محمد بك . وكان الغلام يسبق صلاة المغرب فيجلس في اقرب مكان من كرسي الاستاذ . وكان الاستاذ جهوري الصوت قد احتفظ بلهجة الصعيد كاملة . وكان شديد النشاط كثير الحركة . وكان اذا ساله طالب رد عليه ساخراً منه ، فان الح الطالب في السؤال ثار هو به وجعل يقول له في حدة : "اسكت ياخاسر ، اسكت ياخنزير!" وكان يفخم الخاء في الكلمتين الى اقصى ما يستطيع فيه ان يبلغ من التفخيم .

وقد استقام للشيخ وللطلاب امرهم حتى اتمموا قسم التصورات . فلما بلغوا في كتابهم المقصد الثاني في التقصديقات لقى الغلام من نفسه ومن شيخه بلاء عظيماً ، فاضطر الى ان يختار له من الغد مكاناً بعيداً عن الشيخ ، وما زال يتاخر يوماً بعد يوم في مجلسه حتى بلغ باب القبة ، فحرج منه ذات ليلو ، ولم يدخله بعد ذلك.

لقى الغلام بلاء من نفسه لم يذكره قط الا ضحك منه ضحكاً شديداً ، واضحك منه اخاه واصدقائه جميعاً . فقد جلس الشيخ على كرسيه واخذ في القراءة ، فقال : "المقصد الثاني في التصديقات" يقلقل القاف ويفخم الصاد ، ويمد الالفات والياءات مداً متوسطاً ، ثم يعيد هذه الكلمات نفسها فيقلقل القاف ويفخم الصاد ويطيل مد الالف والياء في الثاني ، ولكنه لا يقول " في التصديقات" وانما يقول "في مين؟" فلا يرد عليه احد . فيرد على نفسه ويقول "في التصديقات" ثم يعيد الكلمة نفسها على هذا النحو نفسه ، فاذا انتهى الى قوله "في مين" ولم يرد عليه احد ، ضرب بظهر يده في جبهة الغلام وهو يقول : "ردوا ياغنم ، ردوا يابهائم ، ردوا ياخنازير!". يفخم الغين والخاء الى اقصى ما يستطيع فمه ان يبلغ من التفخيم ، فيقول الطلاب جميعاً : "في التصديقات."

لقى الغلام من نفسه عناء شديداً ، فقد كان هذا كله خليقاً ان يضحكه ، وكان يخاف ان يضحك بين يدي الاستاذ . ولقى من شيخه بلاءاً عظيماً بهذه الضربات التي كانت تتوالى على جبهته بين حين وحين. ومهما يكن من شيء فقد تحول الغلام عن هذا الدرس ولم يتجاوز بالمنظق عند هذا الشيخ باب القضايا .

تحول عن هذا الدرس في اثناء العام ، وقرر ان يحضر مكانه درساً في التوحيد كان يلقيه شيخ جديد حديث الظفر بدرجة العالمية . وكان اصدقاؤه من كبار الطلاب يذكرونه بالظرف الشديد والذكاء المتوسط وحلاوة الصوت وحسن الالقاء ، ويقولون: ان علمه يخدع من حدثه او سمع عنه ، فاذا تعمقه لم يجد عنده شيئاً . وكان يقرأ شرح الخريدة ومتنها للدردير. فسمع الغلام منه درساً واعجب بصوته والقائه وظرفه ، وجعل ينتظر ان يعجب بعلمه وفنقلته . ولكن الشيخ صُرف عن الدرس لانه نقل من القاهرة وارسل الى مكان بعيد تولى فيه منصب القضاء ، فلم يتح للغلام ان يعلم علمه ، ولا ان يقضي في امره بشيء الا انه كان لبقاً ظريفاً حلو الصوت عذب الحديث .

واذاً فقد ضاعت السنة في حقيقة الامر على الغلام ، ولم يحصل فيها من العلم شيئاً جديداً ، الا ما كان يقرؤه في الكتب ويسمعه من اولئك الطلاب الكبار وهم يطالعون او يتناظرون .

فلما عاد الى الازهر عاد اليه ضيق النفس به ، شديد الزهد فيه ، حائراً في امره لا يدري ماذا يصنع : لا يستطيع ان يقيم في الريف ، وماذا يفعل في الريف ! ولا يجد نفعاً من اقامته في القاهرة واختلافه الى الشيوخ .



وفي الحق ان اقبال الفتى على درس الادب لم يصرفه عن علومه الازهرية اول الامر، فقد كان يظن انه يستطيع الملاءمة في نفسه بين هذين اللونين من الوان المعرفة . وهو لم يرسل الى القاهرة ولم ينسب الى الازهر ليكون اديباً ينظم الشعر او ينشيء النثر . وانما ارسل الى القاهرة وانتسب الى الازهر ليسلك طريقه الازهرية الخالصة ، حتى يبلغ الامتحان ويظفر بالدرجة ، ويسند ظهره الى عمود من الاعمدة القائمة في ذلك المسجد العتيق ، ويتحلق الطلاب من حوله فيسمعوا منه درساً في الفقه او في النحو او فيهما جميعاً .

كذلك كان يتمنى ابوه ،وبذلك كان يتحدث الى الاسرة في شيء من الامل والاعجاب بابنه هذا الشاذ الغريب. وكذلك كان يريد اخوه ، وكذلك كان يريد هو . وماذا كان يمكن ان يريد غير ذلك وقد فرضت الحياة على امثاله من المكفوفين الذين يريدون ان يحيوا حياة محتملة احدى اثنتين : فاما الدرس في الازهر حتى تنال الدرجة وتضمن الحياة بهذه الارغفة التي تؤخذ في كل يوم ، وبهذه القروش التي تؤخذ آخر الشهر لا تزيد عن خمسة وسبعين قرشاً ان كانت الدرجة الثالثة ، ولا عن مائة قرش ان كانت الدرجة الثانية ، ولا عن خمسين ومائة قرش ان كانت الدرجة الاولى . واما ان يتجر بالقرآن فيقراه في المآتم والبيوت كما انذره بذلك ابوه في وقت من الاوقات.

فلم يكن للفتى بد اذن من ان يمضي في طريقه الازهرية حتى يبلغ غايتها . وكانت هذه الطريق تتشعب الى شعبتين اذا قضى الطالب ثلاثة اعوام او اربعة في الازهر : احدهما علمية وهي الاختلاف الى الدروس والتنقل في مراحل العلم . وكان الفتى ماضياً فيها ، اقبل عليها مشغوفاً بها ، ثم فترت همته . ثم ازدراها وانصرفت عنها نفسه حين استياس من الاساتذة وساء ظنه بالشيوخ.

والثانية مادية وكانت تتالف من مراحل ثلاث: مرحلة المنتسب ، ومرحلة المنتظر ، ومرحلة المستحق ، اما مرحلة المنتسب فهي المرحلة التي يبدا الطالب بها حياته الازهرية بعد ان يتم تقييده في سجلات الازهر. ولم يكن له بد من ان ينتسب الى احد الاروقة . وقد انتسب صاحبنا كما انتسب اخوه الى رواق الفشنية . واما مرحلة المنتظر فقد كانت المرحلة الثانية ، ينتقل اليها الطالب بعد ان يقيم اعواماً في الازهر ، وسبيله الى ذلك ورقة يكتبها ويرفعها الى شيخ الرواق يعين فيها ما انفق في الازهر من عام وما حضر فيه من درس ، ويشهد على صدقه فيما سجل فيها شيخان من شيوخه ، ويطلب الى شيخ الرواق ان يقيد اسمه بين اسماء المنتظرين ، حتى اذا خلا مكان بين المستحقين للجراية ارتقى اليه فبلغ المرحلة الثالثة ونال جرايته رغيفين او ثلاثة او اربعة ، على اختلاف بين الاروقة في ذلك .

فلم يكن بد لصاحبنا من ان يرقى الى مرحلة المنتظرين ، وقد كتب الورقة وختمها بالجملة التي كانت شائعة اذ ذاك "جعلكم الله ملجأ للقاصدين."

وشهد شيخان انه لم يقل في هذه الورقة الا حقاً . وذهب الى الشيخ في داره فرفع اليه الورقة بعد ان قبل يده وانصرف. فانتظر وطال الانتظار ، ولم يظفر بالجراية قط في هذا الرواق . ولكن ارتقاءه الى مرحلة المنتظرين ارضى اباه وملأ فمه فخراً على كل حال .

وبينما كان ينتظر في طائل او في غير طائل خرج الاستاذ الامام من الازهر في تلك القصة المعروفة ، وبعد تلك الخطبة المشهورة التي القاها الخديوي على بعض العلماء .

وكان الفتى يظن ان تلاميذ الشيخ ، وكانوا كثيرين يكتظ بهم الرواق العباسي في كل مساء ، سيحدثون حدثاً ، وسينبئون الخديوي بان شباب الازهر قد تغيروا ، وبانهم سيذوذون عن شيخهم ، وسيبذلون في سبيل ذلك لا اوقاتهم وحدهم بل ارواحهم .

ولكن الشيخ ترك الازهر واتخذ داراً للافتاء ، فلم يزد تلاميذه على ان حزنوا وتحدثوا بالاسف فيما بينهم وبين انفسهم ، وزار قليل منهم الشيخ في داره بعين شمس ، وانصرف عنه اكثرهم ، وانتهى الامر عند هذا الحد . فامتلات نفس الفتى حزناً وغيظاً ، وساء ظنه بالطلاب كما ساء ظنه بالشيوخ ، ولم يكن مع ذلك قد عرف الاستاذ الامام او قدم اليه .

وبعد ذلك بقليل توفى الاستاذ الامام ، فاضطربت مصر لوفاته ، وكانت البيئة الازهرية اقل البيئات المصرية اضطراباً لهذا الحادث الجلل. واسف تلاميذ الشيخ ، ولعل قليلاً منهم سفحوا بعض الدموع ، ولكنهم اقبلوا بعد الصيف على دروسهم ، وكأن الشيخ لم يمت ،او كأن الشيخ لم يكن ، لولا ان الخاصة من تلاميذه كانوا يذكرونه بالخير بين حين وحين .

وكذلك عرف الفتى في الم لاذع ولاول مرة في حياته الناشئة ان ما يقدم الى عظماء الرجال من الوان الاكبار والاجلال وضروب التملق والزلفى لغو لا طائل تحته ولا غناء فيه ، وان وفاء الناس ينحل في اكثر الاحيان الى كلام لا يفيد .

وزاد سوء الظن بالناس في نفس الفتى قوة ما لاحظه في بعض البيئات من انتهاز وفاة الشيخ فرصة للتجار باسمه ، واستغلال الصلة به ، يتوسلون الى ذلك بالشعر حيناً وبالنثر حيناً آخر، وبالاعلان في الصحف والمجلات دائماً .

ولكن الفتى احس شيئاً آخر زاد به انحرافاً عن الازهر وانصرافاً عن شيوخه وطلابه . احس ان الذين بكوا الشيخ صادقين وحزنوا عليه مخلصين لم يكونوا من اصحاب العمائم ، وانما كانوا من اصحاب الطرابيش ، فوجد في نفسه ميلاً خفياً الى ان يقرب من اصحاب الطرابيش هؤلاء ، والى ان يتصل ببيئاتهم بعض الاتصال . ومن له بذلك وهو فتى ضرير قد فُرضت عليه الحياة الازهرية فرضاً فلم يجد عنها منصرفاً .

وكان الاستاذ الامام شيخاً لرواق الحنفية ، فلما خرج من الازهر او لما خرج من الحياة اصبح خلفه على الافتاء خلفاً له على الرواق ايضاً.

كان ابن المفتي الجديد استاذاً لصاحبنا الفتى ، سمع عليه في صباه شرح السيد الجرجاني على ايساغوجي في المنطق ، وكان يقوم عن ابيه بامر الرواق . فاغرى الفتى بالانتساب الى رواق الحنفية والانتظار فيه . وكانت الجراية في رواق الحنفية ايسر منالاً واكثر عدد ارغفة منها في غيره من الاروقة ، ولم يكن الانتساب الى رواق الحنفية ايام الاستاذ الامام سهلاً ولا يسيراً وانما كان الامتحان سبيلاً اليه . وقد احتفظ الفتي الجديد بهذه السنة ، وكان ابنه هو الذي يمتحن المتقدمين للانتساب في موعد بعينه في العام . فقيل لصاحبنا الفتى مالك لا تنتسب الى هذا الرواق وقد انتسب اليه اخوك من قبل واصحابه النجباء ايام الاستاذ الامام ، وهم ياخذون منه جراياتهم اربعة ارغفة لكل واحد منهم في كل يوم. وزين ذلك له وحثه عليه اخوه واصحابه . وارسل الى الامتحان ذات مساء ومعه كتاب الى الممتحن. فلما ادخل الفتى على الممتحن حياه واخذ منه الكتاب فنظر فيه ثم القى عليه سؤالاً ورد الفتى جواب السؤال حطأ او صواباً لم يدر ، ولكن الممتحن قال له : "انصرف ياعلامة" فانصرف راضياً ، ولم يمض الا وقت طويل حتى اصبح الفتى مستحقاً ونال رغيفين في كل يوم ، فكثر الخير في الغرفة ، وفرحت الاسرة في الريف.

على ان الفتى لم ينل رغيفين فحسب ، وانما نال معهما خزانة في الرواق كانت آثر عنده من الرغيفين . فقد كان يستطيع اذا دخل الازهر في الصبح ان يذهب الى خزانته فيضع فيها نعليه ورغيفيه او احدهما ، ويقضي نهاره حراً لا يعني بهاتين اللتين كان او احدهما ، ويقضي نهاره حراً لا يعني بهاتين النعلين اللتين كان يبذل جهداً غير قليل لحمايتهما من عدوان الخاطفين والسارقين . وما اكثر ما كانت تسرق النعال في الازهر! وما اكثر ما كانت تلصق على جدران الازهر من حول الصحن اوراق يعلن فيها اصحابها ان نعلانهم قد ضاعت ، وان من ظفر بها فردها الى صاحبها في مكان كذا او رواق كذا ، فله الاجر والثواب ، ومن احتفظ بها متعدياً قطعه الله من هذا المكان. كان الفتى اذاً سعيدا بخزانته ورغيفيه ، ولكنه لم يكن سعيداً بما كان يحصل من العلم او يسمع من الدرس . وقد كان يكره نفسه اكراهاً على ان يسمع بعد الفجر درساً في التوحيد كان يلقيه الشيخ راضي رحمه الله ، وكان يقرأ كتاب المقاصد ، ويسمع في الصبح درس البلاغة على الشيخ عبد الحكيم عطا وكان يقرأ شرح السعد .

وكان درس الفقه يسلي الفتى ويلهيه بما كان يسمع من غناء الشيخ اذا خلى الطلاب بينه وبين الغناء ، وحدة الشيخ ونكته الازهرية اذا قطع الطلاب عليه غناءه فجادلوه في بعض ما كان يقرأ او كان يقول وربما كان الشيخ ينشد طلابه احياناً من شعره اذا صفا وطابت نفسه للانشاد . وقد حفظ عنه الفتى بيتاً من الشعر لم ينس قط صوت الشيخ وهو يتغنى به مترنحاً :

كأن عمته من فوق هامته شنف من التبن محمول على جمل

وقد روى الفتى هذا البيت لاخيه واصحابه فتضاحكوا وتذاكروا وتناشدوا بعضه. وروى الفتى الى البيت السابق بيتاً آخر ليس اقل منه طرافة وظرفاً ، وهو مطلع قصيدة قالها الشيخ رحمه الله في رثاء بعض العلماء ، وهو :

خطب جليل بعد موتك يانبي فقد الائمة كالامام المغربي

وقد روى المصريون جميعاً عن الشيخ بعد ذلك العهد باعوام طوال بيتاً آخر لم ينسه ظرفائهم بعد ، وقد سار فيهم كما تسير الامثال ، وهو:

انا مع الامرا والوفد والوزرا على وفاق له في القلب تاييد

وكان الفتى ربما جادل الشيخ فاطال الجدال ،وقد اسرف الجدال مرة في الطول حتى تاخر الدرس عن ابانه ، وتصايح الطلاب من جوانب المسجد الحسيني بالشيخ ان حسبك فقد نفذ الفول ، فاجابهم الشيخ في غنائه الظريف : لا والله لا نقوم حتى يقتنع هذا المجنون، ولم يكن بد للمجنون من ان يقتنع ، فقد كان هو ايضاً حريصاً على ان يدرك الفول قبل ان ينفذ .

وكان درس البلاغة اثيراً عند الفتى ، لا لما كان يحصل فيه من علم ، فقد مضى منذ وقت طويل اقبال الفتى على الدروس في الازهر لتحصيل العلم ، وانما كان يقبل عليه اداء للواجب وقطعاً للوقت والتماساً للفكاهة . وكان درس البلاغة اثيراً عنده لانه كان يجد فيه هذه الفكاهة ، ولان الشيخ ، نضر الله وجهه ، كان سمح النفس رضي الخلق مخلصاً في درسه للعلم وللطلاب . ولانه بعد ذلك كان يكلف نفسه في الفهم والافهام جهداً عظيماً وعناء ثقيلاً . وكان اذا بلغ منه الجهد رفه على نفسه بهذه الجملة يوجهها الى طلابه بين حين وحين ، في لهجة منياوية عذبة مضحكة : "فاهمين ياسيادي؟"

وكان اذا انتصف الدرس اشفق على نفسه وعلى الطلاب فقطع القراءة والتفسير واقام دقائق صامتاً لا ينطق ، واقبل على نشوقه فالتهم منه بانفه ما استطاع في تؤدة وروية واناة. وكان الطلاب ينتهزون هذه الفرصة ليطفئوا ما كان يتاجج في بطونهم من نار الفول والطعمية والكراث يقدح من اقداح الشراب الذي كان يطوف به الباعة عليهم في اثناء الدروس ، ويدعونهم دعاء لطيفاً بهذا النقر الحفيف الذي كان يمس به الزجاج فيبعث الى الاذات صوتاً خفيفاً ظريفاً .

غضب القصر على شيخ كبير من شيوخ الازهر ، فمنع الشيخ من القاء دروسه ، ورأى الناس ان في هذا المنع ظلماً للشيخ وعدواناً على حقوق الازهر ، ولكنهم لم يصنعوا شيئاً ، وكان الازهريون اشدهم فتوراً وخنوعاً ، واكن صديقاً من اصدقاء الفتى اقبل عليه ذات يوم فقال له : الست ترى فيما حل بشيخنا ظلماً وعدواناً؟ قال الفتى: بل واي ظلم واي عدوان؟ قال له الصديق : الا تشارك في الاحتجاج على هذا الظلم؟ قال الفتى: وكيف السبيل الى ذلك؟ قال الصديق: نجمع نفراً من اصدقائنا الذيم كانوا يسمعون دروس الشيخ ونسعى اليه نتمنى عليه ان يمضي في القاء دروسه علينا في بيته ، فاذا قبل انتفعنا بالدرس واعلنا ذلك في الصحف فعرف الظالمون للازهر ان بين الازهريين من لا يقرون الظلم ولا يذعنون له . فقال الفتى : هذا حسن.

واجتمع نفر من طلاب الشيخ فسعوا اليه بما ارادوا ، واجابهم الى ما طلبوا ، فاعلنوا ذلك في الصحف ، واعلنوا ان الشيخ سيقرأ لهم "سلم العيون" في المنطق و"مسلم الثبوت" في الاصول ، يقسم الاسبوع بين هذين الكتابين .

وبدأ الشيخ دروسه في بيته ، وكثر الطلاب المقبلون على هذه الدروس حين علموا بها ، ورضى هؤلاء الشباب عن انفسهم وعن شجاعتهم ، وعاد الى الفتى شيئ غير قليل من الامل:

ولكنه في ذات يوم جادل الشيخ في بعض ما كان يقول . فلما طال الجدال عضب الشيخ وقال للفتى في حدة ساخرة : "اسكت يا اعمى ما انت وذاك!" فغضب الفتى واجاب الشيخ في حدة : "ان طول اللسان لم يثبت قط حقاً ولم يمح باطلاً." فوجم الشيخ ووجم الطلاب لحظة ، ثم قال الشيخ لطلابه: "انصرفوا اليوم فهذا يكفي."

ولم يعد الفتى منذ ذلك اليوم الى دروس الشيخ ، بل جهل كل ما كان من امرها. وكذلك عاد الفتى الى ياسه من الازهر ، ولم يبق له امل الا في درس الادب الذي آن وقت للتحدث عنه وعن آثاره البعيدة في حياة هذا الشاب.



لم يكد الفتى يبلغ القاهرة ويستقر فيها حتى سمع ذكر الادب والادباء ، كما سمع ذكر العلم والعلماء . سمع حديث الادب بين هؤلاء الطلاب الكبار حين كانوا يذكرون الشيخ الشنقيطي ، رحمه الله ، وحماية الاستاذ الامام به وبره له . وقد وقع هذا الاسم الاجنبي من نفس الصبي موقعاً غريبا. وزاد موقعه غرابة ما كان الصبي يسمعه من اعاجيب الشيخ واطواره الشاذة وآرائه التي كانت تضحك قوماً وتغضب قوماً آخرين .

كان اولئك الطلاب الكبار يتحدثون بانهم لم يرو قط ضريباً للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سنداً ومتناً عن ظهر قلب . وكانوا يتحدثون بحدته وشدته وسرعته الى الغضب وانطلاق لسانه بما لا يطاق من القول . وكانوا يضربونه مثلاً لحدة المغاربة . وكانوا يذكرون اقامته في المدينة ورحلته الى القسطنطينة ، وزيارته للاندلس ، وربما تناشدوا شعره في بعض ذلك. وكانوا يذكرون ان له مكتبة غنية بالمخطوط والمطبوع في مصر وفي اوربا . وانه لا يقنع بهذه المكتبة وانما ينفق اكثر وقته في دار الكتب قارئاً او ناسخاً. ثم كانوا يذكرون بعد ذلك متضاحكين قصته الكبرى تلك التي شغلته بالناس وشغلت الناس به ، وعرضته لكثير من الشر والالم ، وهي رايه ان "عمر" مصروف لا ممنوع من الصرف.

وكان الصبي يسمع حديث "عمر" هذا فلا يفهم منه شيئاً اول الامر ، ولكنه لم يلبث ان فهمه في وضوح حين تقدم في درس النحو وعرف المصروف والممنوع من الصرف ، وعرف غير المتمكن والمتمكن ، والمتمكن الامكن من الاسماء. وكان اولئك الشباب يذكرون مناظرات الشيخ مع جماعات من علماء الازهر في صرف "عمر" هذا او منعه من الصرف ، ويتحدثون ضاحكين بان العلماء اجتمعوا للشيخ ذات يوم في الازهر يراسهم شيخ الجامع ، فطلبوا اليه ان يعرض عليهم رايه في صرف عمر. فقال الشيخ في لهجته المغربية المتحضرة: لا اعرض عليكم هذا الرأي حتى تجلسوا مني مجلس التلاميذ من الاستاذ . فتردد الشيوخ ، ولكن واحداً منهم ماكراً ماهراً نهض عن مجلسه وسعى حتى كان بين يدي الشيخ فجلس على الارض متربعاً ، واخذ الشيخ في عرض رايه فقال : انشد الخليل

فقال:

ياايها الزاري على عُمرٍ قد قلت فيه غير ما تعلم

فقال الشيخ الجالس مجلس التلميذ بصوته الماكر النحيف : لقد رايت الخليل امس فانشدني البيت على هذا النحو: "ياايها الزاري على عُمرَ " ولم يدعه الشيخ الشنقطيطي يتم انشاده، وانما قطع عليه الانشاد محتداً وهو يقول : "كذبت ، كذبت! لقد مات الخليل منذ قرون طويلة فكيف يمكن لقاء الموتي؟!" وجعل بعد ذلك يشهد الشيوخ على تعمد صاحبهم للكذب ، وعلى جهله بالنحو والعروض . وضحك القوم وتفرق المجلس دون ان يقضى في امر "عمر" اممنوع من الصرف كما يقول النحاة ام مصروف كما يقول هذا الشيخ الغريب. وكان الصبي يسمع هذا الكلام فيحفظه ، ويجد اللذة فيما فهم منه ، ويعجب بما لم يفهم .

وكان الشيخ يقرأ لبعض الطلاب هذه القصائد التي تعرف بالمعلقات ، وكان اخر الصبي وبعض اصدقائه يسمعون هذا الدرس في يوم الخميس او في يوم الجمعة من كل اسبوع ، وكانوا يعدون هذا الدرس كغيره من الدروس . وكذلك سمع الصبي لاول مرة

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل.

وما اسرع ما انصرف هؤلاء الطلاب الكبار عن هذا الدرس الذي لم يسيغوه! ولكن اخا الصبي حاول ان يحفظ المعلقات ، فحفظ منها معلقة امريء القيس ومعلقة طرفة. كان يردد الابيات بصوت مرتفع والصبي يسمع فيحفظ ، ثم لم يلبث ان اشرك الصبي معه في الحفظ. لكنه لم يتجاوز هاتين المعلقتين وانصرف الى دروسه الازهرية الاخرى. واستقرت المعلقتان في نفس الصبي يحفظهما ولا يفهم منهما الا قليلاً.

وكان هؤلاء الطلاب يتحدثون عن درس آخر كان يلقى في الازهر ليعلم الازهريين صناعة الانشاء. وكان يلقيه شيخ سوري من خاصة الاستاذ الامام ، وقد اختلف اليه هؤلاء الطلاب فاشتروا الدفاتر وكتبوا موضوعات الانشاء ، ولكنهم عدلوا عنه بعد قليل كما عدلوا عن درس الشنقيطي . واقبل اخو الصبي ذات يوم ومعه مقامات الحريري ، فجعل يحفظ بعضها رافعاً صوته بالقراءة والصبي يحفظ صامتاً ، ثم اشركه في الحفظ كما اشركه في حفظ المعلقات ، ومضيا في ذلك حتى حفظا عشر مقامات . ثم انصرف الشيخ الفتى الى الاصول والفقه والتوحيد ، كما انصرف عن الملعقات ودرس الانشاء.

واقبل مرة اخرى ومعه كتاب ضخم يسمى نهج البلاغة فيه خطب الامام علي وقد شرحها الاستاذ الامام نفسه . فجعل يحفظ من هذه الخطب ويحفظ الصبي معه ، ثم اعرض عن هذا الكتاب كما اعرض عن غيره بعد حفظ الصبي طائفة من الخطب.

وصنع الشيخ الفتى هذا الصنيع نفسه بمقامات بديع الزمان الهمذاني . ولم ينس الصبي قط فصيدة ابي فراس :

اراك عصي الدمع شيمتك الصبر اما للهوى نهي عليك ولا امر

فقد اقبل بها اخوه وقد طبعت مشطرة او مخمسة ، شطرها او خمسها بعض الازهريين ، فجعل يقرا في هذه القصيدة ، ثم لم يلبث ان اعرض عن تشطير الازهري او تخميسه واخذ في حفظ القصيدة نفسها مع اخيه : وانما ذكر الصبي هذه القصيدة لانه صادف في اثنائها بيتاً كان يقع في اذنه موقعاً غريباً ، وهو قول ابي فراس:

بدوت واهلي حاضرون لانني ارى ان داراً لست من اهلها قفر

فقد قراه الشيخ الفتى واحفظه اخاه: لانني ارى دار الست من اهلها قفر. وكان الصبي يسال نفسه عن معنى هذا البيت ، كما كان يرى غريباً ان تاتي كلمة الست في بيت من الشعر . فلما تقدمت به السن وتقدمت به المعرفة ايضاً قرأ البيت على وجهه ففهمه ، وعرف كذلك ان كلمة الست ربما جاءت في شعر المحدثين من العباسيين ، ونثرهم ايضاً .

وكذلك اتصل صاحبنا بالادب على هذا النحو المضطرب المختلط ، وجمع في نفسه اطرافاً من هذا الخليط من الشعر والنثر . ولكنه لم يقف عند شيء من ذلك ولم يفرغ له ، وانما كان يحفظ منه ما يمر به حين تتاح له الفرصة ، ثم يمضي نشاته وفناقله .

وفي ذات يوم من اول العام الدراسي اقبل اولئك الشباب متحمسين اشد التحمس لدرس جديد يلقى في الضحى ، ويلقى في الرواق العباسي ، ويلقيه الشيخ محمد المرصفي في الادب ، وسموا ديوان الحماسة .

وكانوا قد فتنوا بهذا حين سمعوه فلم يعودوا الى غرفاتهم حتى اشتروا هذا الديوان ، وازمعوا ان يحضروا الدرس وان يعنوا به وان يحفظوا الديوان نفسه . واسرع اخو الصبي كعادته دائماً ، فاشترى شرح التبريزي لديوان الحماسة وجلده تجليداً ظريفاً ، وزين به دولابه ذاك، وان كان قد نظر فيه بين حين وحين . وقد جعل اخو الصبي يحفظ ديوان الحماسة ، وربما قرأ عليه شيئاً من شرح التبريزي ، وكان يقرؤه على نحو نحو ما كان يقرأ كتب الفقه والاصول ، ويتفهمه على نحو ما يتفهم هذه الكتب.

وكان الصبي يحس ان هذا الكتاب لا ينبغي ان يقرأ على هذا النحو ولا ان يُفهم على هذا النحو . كان الشيخ الفتى واصحابه يرون ديوان الحماسة متناً ، وكتاب التبريزي شرحاً ، وكانوا ياسفون على ان احداً لم يكتب على هذا الشرح حاشية . وكانوا كثيراً ما يقصون حديث الشيخ اليهم وعبثه بهم وتندره على اساتذتهم وعلى كتبهم الازهرية .

يقصون ذلك ضاحكين منه معجبين به ، ماضين على الرغم منه في درسهم الازهري لا يفترون عنه ولا يقصرون فيه .

وكان صاحبنا يسمع احاديثهم ، فيبتهج لها اشد الابتهاج ، ويشتاق الى هذا الدرس اشد الشوق . ولكن اولئك الشباب لم يلبثوا ان اعرضوا عن هذا الدرس كما اعرضوا عن غيره من دروس الادب ، لانهم لم يروه جداً ، ولانه لم يكن من الدروس الاساسية في الازهر ، وانما كان درساً اضافياً من هذه الدروس التي انشاها الاستاذ الامام ، والتي كانت تسمى دروس العلوم الحديثة ، وكانت منها الجغرافيا والحساب والادب . ولان الشيخ كان يسخر منهم فيسرف في السخرية ، ويعبث بهم فيغلوا في العبث.

ساء ظنه بهم ، فرآهم غير مستعدين لهذا الدرس الذي يحتاج الى الذوق ولا يحتمل الفنقلة . وساء ظنهم به ، فرأوه غير متمكن من العلم الصحيح ولا بارع فيه ، وانما هو صاحب شعر ينشد وكلام يقال ، ونكت تضحك ثم لا يبقى منها شيء.

وكانوا مع ذلك حراصا على ان يحضروا هذا الدرس ، لان الاستاذ الامام كان يحميه ، ولان الشيخ كان مقرباً من الاستاذ الامام ، ينتهز كل فرصة لينشيء في مدحه قصيدة يرفعها اليه ثم يمليها على الطلاب ، وياخذ بعضهم بحفظها على انها من جيد الشعر ورائعة . وكانوا يرونها جيدة رائعة لانها كانت في مدح الاستاذ الامام.

وقد بذلوا ما استطاعوا من الجهد للمواظبة على هذا الدرس ، ولكنهم لم يطيقوا عليه صبراً ، فانصرفوا عنه. وانقطع عن صاحبنا ذكر الادب بعد ان حفظ من ديوان الحماسة جزءاً صالحاً ، ثم اشيع ذات يوم ان الشيخ المرضفي سيخصص يوميم من ايام الاسبوع لقراءة المفصل للزمخشري في النحو. فسعى صاحبنا الى هذا الدرس الجديد. ولم يسمع للشيخ مرة ومرة حتى احبه وكلف به وحضر درس الادب ف ايامه في الاسبوع ، ولزم الشيخ منذ ذلك الوقت.

وكان الصبي قوي الذاكرة ، فكان لا يسمع من الشيخ كلمة الا حفظها ، ولا رأياً الا وعاه ، ولا تفسيرأ الا قيده في نفسه . وكثيراً ما كان يعرض البيت وفيه كلمة قد مضى تفسيرها او اشارة الى قصة قد قصها الشيخ فيما قدم من درسه ، فكان صاحبنا يعيد على الشيخ ما حفظ من قصصه وتفسيره وما قيد من آرائه وخواطره ونقده لصاحب الحماسة وشراحها ، وتصحيحه لرواية ابي تمام ، واكماله للمقطوعات التي كان ابو تمام يرويها .

واذا الشيح يحب الفتى ويكلف به ، ويوجه اليه الحديث في اثناء الدرس ، ويدعوه اليه بعد الدرس فيصحبه الى باب الازهر ثم يدعوه الى ان يصحبه في بعض الطريق . وقد دعاه ذات يوم الى ان يُبعد معه في السير ، حتى انتهى الشيخ وتلميذه هذا وتلاميذ آخرون الى قهوة فجلسوا فيها ، وكان هذا اول عهد الفتى بالقهوات . وقد طال المجلس منذ صليت الظهر دعا المؤدن الى صلاة العصر . وعاد الفتى سعيداً مغتبطاً قوي الامل شديد النشاط.

ولم يكن للشيخ حديث الى تلاميذه اذا تجاوز درس الادب الا الازهر وشيوخه وسوء مناهج التعليم فيه . وكان الشيخ قاسياً اذا طرق هذا الموضوع . وكان نقده لاذعاً وتشنيعه على اساتذة وزملائمه اليماً حقاً . ولكنه كان يجد من نفوس تلاميذه هوى ، وكان يؤثر في نفس هذا الفتى خاصة ابلغ تاثير واعمقه .

واذا الفتى يؤثر هذا الدرس على غيره من الدروس شيئاً فشيئاً ، ويختص اثنين من التلاميذ المقربين الى الشيخ بمودته ثم بوقته . واذا هم يلتقون اذا كان الضحى فيسمعون للشيخ ، ثم يذهبون الى دار الكتب فيقرءون فيها الادب القديم ، ثم يعودون الى الازهر بعد العصر فيجلسون في هذا الممر بين الادارة والرواق العباسي ، يتحدثون عن شيخهم وعما قرءوا في دار الكتب ، ويعبثون بشيوخهم الاخرين ، ويعبثون بالداخلين والخارجين من الشيوخ والطلاب . فاذا صليت المغرب دخلوا الرواق العباسي فسمعوا درس الشيخ بخيت الذي كان يقرأ في تفسير القرأن مكان الاستاذ الامام بعد ان توفى.

ولكن الفتية لم يكونوا يسمعون للشيخ الذي يقرأ كما كان يسمع له غيرهم من الطلاب ، وانما كانوا يسمعون له ليضحكوا منه وليقيدوا عليه اغلاطه ، وكانت كثيرة ولاسيما حين كان يعرض للغو والادب. وليشنعوا عليه بهذه الاغلاط بعد الدرس ، وليعرضوا هذه الاغلاط من الغد على شيخهم المرضفي ، فيقدموا اليه مادة جديدة للتشنيع على اساتذته وزملائه من الشيوخ .

وقد كانت نفوس هؤلاء الفتية ضيقة بالازهر ، فزادها الشيخ ودرسه بها ضيقاً . وكانت نفوسهم شيقة الى الحرية ، فحط الشيخ ودرسه عنها القيود والاغلال.

وما اعرف شيئاً يدفع النفوس ، لا سيما النفوس الناشئة ، الى الجرية والاسراف فيها احياناً كالادب ، وكالادب الذي يدرس على نحو ما كان الشيخ المرضفي يدرسه لتلاميذه حين كان يفسر لهم الحماسة او يفسر لهم الكامل بعد ذلك . نقد حر للشاعر اولاً ، وللراوي ثانياً ، وللشرح بعد ذلك ، وللغويين على اختلافهم بعد اولئك وهؤلاء . ثم امتحن للذوق ورياضة له على تعرف باطن الجمال في الشعر او النثر ، في المعنى جملة وتفصيلاً ، وفي الوزن والقافية وفي مكان الكلمة بين اخواتها . ثم اختبار للذوق الحديث في هذه البيئة التي كان يلقى فيها الدرس ، وموازنة بين غلظة الذوق الازهري ورقة الذوق القديم ، وبين كلال العقل الازهري ونفاذ العقل القديم ، وانتهاء من هذا كله الى تحطيم القيود الازهرية جملة ، والى الثورة على الشيوخ في علمهم وذوقهم وفي سيرتهم واحاديثهم بالحق في كثير من الاحيان ، والاسراف والتجني في بعض الاحيان .

ومن اجل هذا لم يثبت حول الشيخ من تلاميذه الذين كثروا اول الامر الا نفر قليل ، وامتاز منهم هؤلاء الثلاثة خاصة ، فكونوا عصبة صغيرة ولكنها لم تلبث ان بعد صوتها في الازهر ، وتسلمه بها الطلاب والشيوخ ، وتسامعوا خاصة بنقدها للازهر وثورتها على التقاليد ، وربما كانت تنظم من الشعر في هجاء الشيوخ والطلاب واذا هي بغيضة الى الازهريين مهيبة لهم في وقت واحد.

ولم يكن الشيخ استاذاً فحسب ، ولكنه كان اديباً ايضاً ، ومعنى ذلك انه كان يصطنع وقار العلماء اذ لقى الناس او جلس للتعليم في الازهر ، فاذا خلا الى اصدقائه وخاصتهم عاش معهم عيشة الاديب ، فتحدث في حرية مطلقة عن كل انسان وعن كل موضوع ، وروى لخاصته من شعر القدماء ونثرهم ما يثبت انهم كانوا احراراً مثله ، يقولون في كل شيء وفي كل انسان لا متنطعين ولا متحفظين ، كما كان يقول .

وكان ايسر شيء واهونه ان يذهب الطلاب مذهب شيخهم ولا سيما ، اذا احبوه واكبروه ، ورأوا فيه المثل الاعلى للصبر على المكروه والرضا بالقليل ، والتعفف عما لا يليق بالعلماء والترفع عما كان ينغمس فيه كثير من شيوخ الازهر من الوان السعاية والنميمة والكيد والتقرب الى الرؤساء واصحاب السلطان.

كان تلاميذ الشيخ يرون منه ذلك راى العين ويلمسونه بايديهم ، ويعيشون معه ، في حين كانوا يزورونه في منزله ذلك المتهدم الخرب القديم في حارة قذرة من حارات باب البحر يقال لها "الركراكي" . هناك في اقصى هذه الحارة كان يسكن الشيخ ، يسكن بيتاً قذراً متهدماً ، تدخل فيه من بابه ، فاذا انت في ممر ضيق رطب تنبعث فيه روائح كريهة ، قد خلا من كل شيء الا هذه الدكة الخشبية الضيقة الطويلة العارية التي قد اسندت الى حائط يتساقط منه التراب .

وكان الشيخ ينزل لتلاميذه فيجلس معهم على هذه الدكة ، ولكنه يجلس راضياً مطمئناً ، يسمع لهم باسماً ويتحدث اليهم ارق الحديث واعذبه واصغاه وابراه من التكلف . وربما كان مشغولاً حين يقبل تلاميذه لزيارته ، فيدعوهم الى غرفته ، فيصعدون اليه في سلم متهدم ، ويسلكون اليه دهليزاً خالياً من كل شيء قد انتشر فيه ضوء الشمس . حتى اذا بلغوا غرفته دخلوا على شيخ منحن قد دخل على الارض ، ومن حوله عشرات الكتب يبحث فيها عن مقطوعة يريد ان يتمها ، او بيت يريد ان يفسره ، او لفظ يريد ان يحققه ، او حديث يريد ان يصحح الرأي فيه ، وعن يمينه ادوات القهوة . فاذا دخلوا عليه لم يقم لهم ، وانما تلقاهم مستبشراً فرحاً ، ثم دعاهم الى الجلوس حيث يستطيعون ، ودعا احدهم الى صنع القهوة وادارتها عليه وعليهم . ثم تحدث اليهم لحظات ، ثم دعاهم الى ان يشركوه فيما كان بسبيله من بحث او تحقيق.

ولم ينس الفتى واحد صديقيه انهما زارا الشيخ ذات يوم حين صليت العصر .. فلما صعدا اليه لقيا شيخاً قد جلس على فراش متواضع القي في هذا الدهليز ، والى جانبه امراة محطمة قد انحنت حتى كاد راسها يبلغ الارض والشيخ يطعمها بيده .

فلما راى تلميذيه هش لهما ، وامرهما ان ينتظراه في غرفته شيئاً . ثم اقبل عليهما بعد حين وهو يقول ضاحكاً واضي النفس ، "كنت اعشي امي ".

كان هذا الشيخ اذا خرج من داره صورة الواقار والدعة ، وامن النفس وطمأنينة القلب وصفاء الضمير . وكان صورة الغنى واليسار، لا يحس من يتحدث اليه الا رجلاً قد يُسر عليه في الرزق ، فهو يعيش عيشة امن وهناءة وهدوء.

ولكن تلاميذه وخاصته كانوا يعلمون حق العلم انه كان من اشد الناس فقرا واضيقهم يداً ، وانه كان ينفق الاسبوع او الاسابيع لا يطعم الا خبز الجراية يغمسه في شيء من الملح ، وكان على ذلك يعلم ابنه تعليماً ممتازاً ، ويرعى غيره من ابناءه الذين كانوا يظنون العلم في الازهر رعاية حسنة ، ويدلل ابنته تدليلاً مؤثراً ، يصنع هذا كله براتبه الضئيل الذي لم يكن يتجاوز ثلاثة جنيهات ونصف جنيه . كان من اصحاب الدرجة الاولى ، فكان يتقاضى جنيها ونصف جنيه لذلك ، وكان الاستاذ الامام قد كلفه درس الادب فكان يتقاضى لذلك جنيهين . وكان يستحي ان يقبض راتبه اول الشهر ، ويكره ان يختلط بالعلماء وهم يتهافتون على "المباشر" ليتقاضوا منه رواتبهم ، فكان يدفع خاتمه الى تلميذ من خاصته ليقبض له هذا الراتب الضئيل في الضحى ويؤديه اليه بعد الظهر.

كذلك كان يعيش هذا الشيخ ، وكان تلاميذه يرونه ويشاركونه في حياته تلك البائسة الحرة الممتازة . وكان يرون ويسمعون من امر شيوخ اخرين ما كان يملأ قلوبهم غيظاً وحنقاً ونفوسهم ازدراء واحتقاراً . فاي غرابة في ان يفتتنوا بشيخهم ويتاثروه في سيرته وفي مذهبه وفي ازدرائه للازهريين وثورته بما كان لهم من تقاليد !

لم ينكر تلاميذ الشيخ عليه في ذلك العهد الا انه انحرف ذات مرة يوم عن الوفاء للاستاذ الامام حين تولى الشيخ الشربيني مشيخة الازهر ، فنظم الشيخ قصيدة يمدح فيها الشيخ الجديد ، وكان تلميذاً للشيخ محباً له . وكان الشيخ الشربيني خليقاُ بالحب والاعجاب . واملى الشيخ المرصفي على تلاميذه قصيدته التي مساها ثامنة المعلقات : والتي عارض بها قصيدة طرفة . فلما فرغ من املائها ، والتف حوله تلاميذه ، مضى في الثناء على استاذه ، وعرض بالاستاذ الامام شيئاً ، فرده بعض تلاميذه في رفق ، فارتد اسفاً خجلاً واستغفر الله من خطيئته .

وكذلك اندفع هؤلاء التلاميذ فيما دفعهم اليه حبهم للشيخ وتاثرهم به ، فاسرفوا على انفسهم وعلى شيخهم .

ولم يكتفوا بهذا العبث الذي كانوا يعبثونه بالطلاب ، ولكنهم جعلوا يجهرون بقراءة الكتب القديمة وتفضيلها على الكتب الازهرية . يقرءون كتاب سيبويه او كتاب المفصل في النحر ، ويقرءون كتاب عبد القاهر الجرجاني في البلاغة ، ويقرءون دواوين الشعراء لا يتحرجون في اختيار هذه الدواوين ولا في الجهر بانشاند ما كان فيها من شعر المجون يقولونه احياناً في الازهر . ويقلدون هذا الشعر ويتناشدون ما ينشئون من ذلك اذا التقوا . والطلاب ينظرون اليهم شرزاً ، ويتربصون بهم الدوائر ، وينتهزون بهم الفرص . وربما اقبل عليهم بعض الطلاب الناشئين يسمعون منهم ويتحدثون اليهم ، ويريدون ان يتعلموا منهم الشعر والادب ، فيغيظ ذلك نرءهم من الطلاب الكبار ويزيدهم موجدة عليهم وائتماراً بهم.

وفي ذات يوم كان صاحبنا يعد مع احد صديقيه درس الكامل ، فعرضت لهم هذه الجملة من كلام المبرد : "ومما كفرت العلماء به الحجاج قوله والناس يطوفون بقبر النبي ومنبره : انما يطوفون برمة واعواد." فانكر صاحبنا ان يكون في كلام الحجاج ما يكفي لتكفيره ، وقال لقد اساء الحجاج ادبه وتعبيره ، ولكنه لم يكفر . وسمع بعض الطلاب ذلك فانكروه ، ثم تناقلوه .

وان فتيانا الثلاثة لفي مجلسهم حول الشيخ عند الحكيم عطا واذا هم يدعون الى حجرة الشيخ الجامع ، فيذهبون واجمين لا يفهمون شيئاً .فاذا دخلوا على الشيخ حسونة لم يجدونه وحده وانما وجدوا من حوله اعضاء مجلس ادارة الازهر وهم من كبار العلماء ، فيهم الشيخ بخيت ، والشيخ محمد حسن العدوي ، والشيخ راضي وآخرون . ويلقاهم الشيخ متجهماً ، ثم يامر رضوان رئيس المشدين ان يدعوا من عنده من الطلاب . فيقبل جماعة من الطلاب فيسالهم الشيخ عما عندهم . ويتقدم احدهم فيتهم هؤلاء الفتية بالكفر لمقالتهم في الحجاج ، ثم يقص من امرهم الاعاجي.

وكان هذا الطالب ماهراً حقاً ، فقد احصى على هؤلاء الفتية كثيراً جداً مما كانوا يعيبون به الشيوخ ، ومما كانوا يعيبون به الشيخ بخيت والشيخ محمد حسنين، والشيخ راضي والشيخ الرفاعي ، وكانوا جميعاً حاضرين ، فسمعوا باذانهم آراء هؤلاء الفتية فيهم . وشهد طلاب آخرون بصدق هذا الطالب في كل ما قاله . وسئل الفتية فلم ينكروا مما سمعوا شيئاً . ولكن الشيخ لم يحاورهم ولم يداورهم ، وانما دعا اليه رضوان فامره في شدة بمحو اسماء هؤلاء الطلاب الثلاثة من الازهر لانه لا يرديد مثل هذا الكلام الفارغ ، ثم يصرفهم عنه في عنف . فخرجوا وجلين قد سقط في ايديهم لا يعرفون ماذا يصنعون ، وكيف يصورون هذه القصة لاهلهم.

ولم يقف امرهم عند هذا الحد ولا عند نظر الطلاب اليهم في ضحك منهم وشماتة بهم ، ولكنهم اقبلوا بعد صلاة العشاء ليلقوا شيخهم المرصفي وليسمعوا منه درس الكامل . واقبل الشيخ ، فلقيه رضوان وانبأه في ادب ولطف بان الشيخ الجامع قد الغى درس الكامل ، وبانه ينتظره في مكتبه اذا كان الغد.

فانصرف الشيخ محزوناً ، ومضى معه تلاميذه الثلاثة خجلين وجلين ، والشيخ يُسري عنهم مع ذلك . حتى اذا كانوا في بعض الطريق خطر لهم ان يذهبوا الى الشيخ بخيت ليستعطفوه ويوسطوه عند شيخ الجامع . وقال لهم شيخهم ، لا تفعلوا ، فلن تبلغوا من سعيكم هذا شيئاً ، ولكنهم مضوا مع ذلك الى دار الشيخ بخيت . فلما ادخلوا عليه عرفهم فتلقاهم ضاحكاً ، ثم سالهم عن جلية امرهم في فتور . فلما احذوا يدافعون عن انفسهم قال لهم في فتور ايضاً : ولكنكم تدرسون الكامل للمبرد ، وقد كان المبرد من المعتزلة ، فدرس كتابه اثم.

وهنالك نسى الفتية انهم جاءوا مستعطفين ، واخذوا يجادلون الشيخ حتى احفظوه . وانصرفوا عنه وقد ملاه الغضب وملاهم الياس . ولكنهم مع ذلك تضاحكوا من الشيخ واعادوا بعض كلماته وتفرقوا وقد تعاهدوا ان يخفوا الامر على اهلهم حتى يقضي الله امراً كان مفعولاً .

ولقوا شيخهم من الغد ، فانباهم بان شيخ الجامع قد حظر عليه قراءة الكامل ، وكلفه قراءة الغنى لابن هشام ، ونقله من الرواق العباسي الى عمود في داخل الازهر . ثم جعل الاستاذ يعبث بشيخ الجامع ، ويزعم لتلاميذه انه لم يخلق للعلم ولا للمشيخة ، وانما خلق لبيع العسل الاسود في سرياقوس ، وكان قد فقد اسنانه فكان ينطق السين ثاء ، وكان يتكلم لغة القاهرة فكان يجعل القاف همزة ، ويمد الواو بينها وبين السين ، وكان يتكلم هامساً ، فلم ينس تلاميذه قط هذه الجملة التي طبعوا بها الشيخ حسونة رحمه الله ، فسموه "بائع العثل في ئرياؤوث".

ولكن بائع سرياقوس هذا كان شديداً حازماً ، وكان مهيباً صارماً ، يخافه الشيوخ جميعاً ومنهم الشيخ المرضفي ، فقد اخذ يقرأ كتاب المغنى ، وذهب اليه تلاميذه مطمئنين، وما يعنيهم ان يقرأ الشيخ هذا الكتاب او ذاك. حسبهم ان يقرأ الشيخ وان يسمعوا منه ويقولوا له وقد سمعوا منه . فلما هم الفتى ان يقول له بعض الشيء اسكته في وفق وهو يقول: لأ ، لأ ، عاوزين ناكل عيش ؟. ولم يعرف الفتى انه حزن منذ عرف الازهر كما حزن حين سمع هذه الجملة من استاذه ، فانصرف عنه ومعه صديقاه ، وان قلوبهم ليملؤها حزن عميق.

على انهم لم يرضوا بهذه العقوبة التي فرضها عليهم شيخ الجامع ، وانما فكروا في الطريق التي يجب ان يسلكوها ليرفعوا عن انفسهم هذا الظلم ، فاما احدهم فقد آثر العافية وفارق صاحبيه واتخذ لنفسه مجلساً في جامع المؤيد بمعزل من العدو والصديق حتى تهدأ العاصفة . واما الاخر فقص الامر على ابيه ، وجعل ابوه يسعى في اصلاح شأن ابنه سعياً رقيقاً . ولكن الفتى لم يفارق صاحبيه ولم يعتزل عدواً ولا صديقاً ، وانما كان يلقى صاحبه كل يوم فيتخذان مجلسهما بين الرواق العباسي والادارة ، ويمضيان فيما تعودا ان يمضيا فيه من العبث بالطلاب والشيوخ.

واما صاحبنا فلم يحتج الى ان يقص الامر على اخيه ، فقد انتهى الامر الى اخيه عن طريق لا يعرفها . ولكن اخاه لم يلمه ولم يعنف عليه ، وانما قال له : "انت وما تشاء فستجني ثمرة هذا العبث وستجدها شديدة المرارة ". ولكن الفتى لم يكن يعرف رفقاً ولا ليناً ، فلم يسع الى احد ولم يتوسل الى الشيخ باحد ، وانما كتب مقالاً عنيفاً يهاجم فيه الازهر كله وشيخ الازهر خاصة ويطالب بحرية الرأي. وماذا يمنعه من ذلك وكانت الجريدة قد ظهرت وكان مديرها يدعو كل يوم الى حرية الرأي.

وذهب صاحبنا بمقاله الى مدير الجريدة فتلقاه لقاء حسناً فيه كثير من اعلطف والاشفاق . وقرأ المقال ثم دفعه ضاحكاً الى صديق له كان في مجلسه يومئذ ، فالقى الصديق نظرة على هذا المقال ثم قال غاضباً : لو لم تكن عوقبت على ما جنيت من ذنب لكانت هذه المقالة وحدها كافية لعقابك . وهم الفتى ان يرد على هذا الصديق ، ولكن مدير الجريدة قال له مترفقاً : ان الذي يحدثك هو حسن بك صبري مفتش العلوم الحديثة في الازهر . ثم قال له : اتريد ان تشتم الشيخ وتعيب الازهر ، ام تريد ان يرفع عنك هذا العقاب؟ قال الفتى : بل اريد ان يرفع عني هذا العقاب ، وان استمتع بحقي من الحرية . قال مدير الجريدة : فدع لي هذه القصة وانصرف راشداً .

وقد انصرف الفتى ، ثم لم يلبث ان تبين وتبين معه صاحباه ، ان شيخ الجامع لم يعاقبهم ولم يمح اسماءهم من سجلات الازهر ، وانما اراد تخويفهم ليس غير.. ومنذ ذلك الوقت اتصل الفتى بمدير الجريدة وجعل يتردد عليه ، حتى جاء وقت كان يلقاه فيه كل يوم .

وفي مكتب مدير الجريدة ظفر الفتى بشيء طالما تمناه ، وهو ان يتصل ببيئة الطرابيش بعد ان سئم بيئة العمائم ، ولكنه اتصل من بيئة الطرابيش بارقاها منزلة واثراها ثراء ، وكان وهو فقير متوسط الحال في اسرته ، سيء الحال جداً اذا قام في القاهرة . فاتاح له ذلك ان يفكر فيما يكون من هذه الفروق الحائلة بين الاغنياء المترفين والفقراء البائسين .



الكتاب الثالث : من الفصل الثاني .....

....ثم مضت الايام وتتابعت فيها الاحداث ، حتى اذا دار العام راى الفتى نفسه يتهيأ للامتحان في الازخر لينال درجة العالمية . وقد تلقى الفتى حينئذ ما كان يسمى بالتعيين ، وهو الدروس التي يجب ان يعدها ليقيها امام لجنة الامتحان ، ويثبت لمناقشة الممتحنين فيها.

فاستعد الفتى واحسن الاستعداد ، وحفظ فاحسن الحفظ ، حتى اذا لم يبق بينه وبين شهود الامتحان الا سواد الليل ، اقبل عليه شيخه المرصوفي - رحمه الله -فأبناه هذا النبأ العجيب الذي لم يحمله اليه في ضوء النهار ، وانما حمله اليه في ظلمة الليل ، بعد ان صليت العشاء.

قال الشيخ : اذا اصبحت يابني فاستقل من الامتحان ولا تخضره في عامك هذا ، فان القوم ياتمرون بك ليسقطوك.

قال الفتى : وما ذاك ؟!

قال الشيخ : تعلم اني عضو في لجنة الامتحان التي ستحضر امامها غداً ، والتي يرأسها الشيخ دسوقي العربي ، فقد دُعى رئيس اللجنة الى رئيس اللجنة واُمر باسقاطك مهما تكن الظروف.

قال الفتى : ولكني ساحضر امام لجنة اخرى يراسها الشيخ عبد الحكيم عطا .

قال الشيخ : فان هذه اللجنة لن تجتمع لان رئيسها ابى ان يسمع للشيخ الاكبر حين امره باسقاطك . فلما الح الشيخ الاكبر عليه الح هو في الاباء ، فلما خيره الشيخ الاكبر بين اسقاطك وبين ال اتجتمع لجنته آثر الا تجتمع اللجنة ، وقال انما هو غداء وثلاثون قرشاً .

وأبى الفتى ان يستقيل على رغم الحاح الشيخ المرضفي عليه في ذلك ، ونام ليله هادئاً موفوراً ، واستقبل صاحبه راضياً مسروراً . وغدا على لجنة الامتحان ، وكانت في مكان ما في الدراسة لا يعرف الفتى اقائم هو ام درس من المنازل والدور.

غدا على لجنة الامتحان فالقى التحية ، وجلس ، وكان اعضاء اللجنة يشربون الشاي.

قال الرئيس للفتى : "هل افطرت؟"

قال الفتى : "نعم"

قال الرئيس: "فاتمم هذا الكوب الذي شربت نصفه لتحصل لك البركة. "

واخذ الفتى من الشيخ كوبه مبتسماً ، وشرب ما فيه متكرهاً. ثم اخذ في الدرس الاول فانفق فيه ساعتين ونصف ساعة ، ولقى فيه من المناقضة اشدها ، ومن الجدال اعنفه . وفي اثناء ذلك دخل الشيخ الاكبر ، فلم يسلم ، وانما قال : حرام عليك ياشيخ دسوقي ، حرام عليك ، ارفق به! ارفق به! ثم انصرف .

ولم يرفق الشيخ دسوقي بالفتى ، وانما اضاف شدة الى شدة ، وعنفاً الى عنف ، وانقضى الدرس الاول . وقيل للفتى اذهب فاسترح .

وخرج الفتى فاذا كرسي قد وضع الى جانب الباب ، وجلس عليه الشيخ الاكبر كانه ينتظر شيئاً . ولم يكد يرى الفتى حتى دعا شيخاً من الشيوخ كان هناك وقال له : خذه ياشيخ ابراهيم فاسقه فنجاناً من القهوة . وفي انتظار هذا الفنجان اقبل من حمل المحفظة الى الفتى ايذاناً بانه قد سقط ، وبأن اللجنة لا تريد ان يتم ما بقي له من الدروس.

[/hide]

دمتم بود
سبحان الله وبحمده

القاضي

:: عضو متألق ::

#2
تسلم ايدك يا انور
على الموضوع الرائع

فرفوشه

:: ضيف شرف ::

#3

سوزان شعث

:: عضو جديد ::

#4

على زكى

:: عضو جديد ::

#5
مشكور يا أخي ودامت منفعتك للناس
إضافة رد


يشاهدون الموضوع : 1 ( عضو0 زائر 1)
 

الانتقال السريع