عرض مشاركة واحدة

Anwar

:: منسق إداري ::

تقرير عن ابو تمام

أبو تمام
المقدمة:
صلتي بأبي تمام وشعره، وديوانه ليست بالحديثة العصر، بل هي ممتدة امتدادها فهي من سنوات عمري؛ فما أن فتحت عيني على الحياة حتى كنت اسمع اسم هذا الشعر الكبير يتردد كثيراً على لسان ابي، ويدور في المجالس ا|لأدبية التي كانت وما تزال تعقد في بيوتنا كلما زرنا أديب أو متأدب إلى ...............
وكانت اتصالي به ومعرفتي له ينموان مع الأيام ويتسعان مع السنين؛ حين دخلة المدرسة، وغدوت احسن القراءة والكتابة، وكنت بين حين وأخر اعود إلى مكتب أبي قراء فيها ما كتب عن أبي تمام وغيره.
وازدادت معرفتي بهذا الشاعر ومحبتي لشعره حين وصلت إلى إلى صف في المدرسة قررت فيه علينا دراسة قصيدته في فتح عموريه .........وكيف لا أحب شعراً قيل في تمجيد بطلات هذه الأمة المجيدة وقادتها العظام، وانتصرتها الخالدة ؟. وكيف لا تزداد محبتي، بل محبة كل مسلم أو عربي لمثل هذا الشاعر وهذه المعارك واؤلئك القادة، وبخاصة في هذا الزمان الأغبر؟!.
كيف لا نحب شعراً يتغنى بذلك القائد الخالد يهب ملبياً صرخة تلك المراة العربية: "و امعتصما".فيرسل بها، لا أنه شكوى الضعاف المتخاذلين الذين لا يملكون غير الشجب والاستنكار والادانة... بل يطلقها صيحة مجد وهتاف بطولة تبلغ وجه الخضراء، وتعم اديم الغبراء. صيحة مايزال صداها مدوين في سماء العالمين، يتردد في مسامع كل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد: "من المعتصم بالله إلى كلب الروم، واللهولأسيرنا إليك جيشاً أوله عندك وأخره عندي، الجواب ما سترى، لا ما تسمع".
قصيدة جعلتني كلما أخلو منفرداً أردد مع أبي ريشه:-
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
اتلقائي وطرقي مطرق حجلاً من امسك المنصرم
ويكاد الدمع يهمي عابثا ببقايا كبرياء الالم
ألاسرائيل تعلو راية في حمى المسجد وظل الحرم
اسمعي نوح الزانه وطربي وانطري دمع اليتامى وبسمي
وتركي الجرحى تداوي جرحها ومنعي عنها كريم البلسم
واحبسي الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم
ودعي القادة في أهواءها تتفانى في خسيس المغنم
لا يلام الذئب في عدوانه إن يك راعي عدو الغنم
رب وامعتصماه انطلقت ملء افواة الصبايا اليتم
لامست اسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
وأرى لغة المشاعر قد طفت على لغة البحث فابتعدت به فلأعد إليه فأقول : ثم كانت دراستي الجامعية، فاتسع الأفق، ونما المحصول...... وكم كان مدى سروري ومبلغ سعادتي حين كلفني أستاذي الأجل الأكرم؛ الأستاذ الدكتور سمير الدروبي كتابة بحث بعنوان:" صورة البطل في شعر أبي تمام..."
وما هو الا ان اعددت للأمر عدته، وشمرت للجد عن ساعده، ورحت أطوف في المكتبات ابحث عن كل ما كتب في الموضوع. ثم أخذت أقراء إلى أن اكتملت لديه عناصر لديه عناصر البحث بعد أن تكاملت... فشرعت في الكتابه؛ فكان هذا البحث.
وإذا لم أجد مصدر أو مرجع كتب في الموضوع بصورة مباشرة فقد اجتهدت في رسم صورة البطل كما أوحى بها شعر أبي تمام. ورأيت انه يقع في المجالات الآتية:-
1- بطل الأطلال والرحلة.
2- بطل الخمرة.
3- بطل الكرم.
4- بطل المعرفة وما فيه من صفات الشجاعة والأباء والسؤدود.
صور أخرى للبطولة والأبطال، وما يجدر ذكره هو أن صورة البطولة غير منفصلة انفصالاَ قسرياَ، بل هي كثير ما تجتمع وتتعدد حتى في البيت الواحد؛. نحو قوله: إذا طيء لم تطؤ منشور بأسها فأنف الذي يهدي له السخط جادع فقد اجتمع في هذا البيت بين صورتي البطل الجود وبطل الحرب واللقاء.
ودرست كل صوره على حده مبرزاً معالم البطولة في كل مجال. وختمته ببيان اوجه البطولة الأخرى. وهذا هو البحث، انه جهد الطالب وعمل المتلقي. فإن وفيت فيه فهو فضل الله يؤتيه من يشاء، وإن قصرت، فهو طبيعة الإنسان وعليه الاعتذار والله أسأل أن يكون كل عملي خالصاً لوجهه الكريم، انه حسبي وإليه مناب.
وفي الختام يسرني ويسعدني أن أتقدم بأكرم آيات الشكر وأجل معاني العرفان لأستاذي الأجل الأكرم، والأحب الأعلى.

تمهيد
موضوع هذا البحث هو صورة البطل في شعر أبي تمام ولست أدرس إعادة جرى عليها الدارسون والمحدثون أم هي سنه ابتدعوها فاتبعوها واتخذوها شريعة بحث ومنهاج دراسة، فلا يجدون في أنفسهم عنها غنى ولا يرون فيها عنها محيصاً، ولا بيغونا بها بديل، ولا يرضون عنها تحولاً ولا تحويلاً. حتى غدة في عرف كل منهم كالأطلال لا يملك الشعراء أن يبدأ قصائدهم بغير الوقوف عليها.
كل يغني على ليلاه متخذاً ليلى من الناس أو ليلى من الخشب
تلكم العادة أو السنة هي أنهم إذا شرع دارس أو باحث في دراسة علم من الاعلام، أو أثر من آثاره فإن أول ما يبداء به ترجمته لذلك العلم، وذكر تفاصيل حياته ودقائقها، وشيوخه، وتلاميذه، ومؤلفاته............. سواء أكان هذا العلم من المغمورين، أم كان ممن يشار إليهم بالبنان ويطبق ذكره الأركان. حتى غد للعلم الواحد من العلماء والادباء عشرات التراجم ؟!.
وقد رأيت أن اخرج على هذا العرف وأن اختلاف هذه العادة وأن الدعوى غير إلى مخالفتها والخروج عليها والاكتفاء بالإحالة على كتب التراجم والطبقات. ولعمري ما مثل أبي تمام بمن يُجهل قدره؛ ذكره، فهو من كبار شعراء العربية في شتى عصورها ومختلف أمصارها، إذا كان موضوع هذا البحث هو ما بدأت بذكره، وحرصاً مني على أن تكون الصورة أوضح جلاء وأن يكون أوفى بياناً فقد رأيت أن لزام هذا وذك أن إبدائه بتعريف البطولة والبطل لغة واصطلاحاً، فأقول:-البطل لغة- كما جاء في اللسان وغيره من معاجم اللغة:-
"بطل: بطل الشيء يبطل بطلاً وبطولاً وبطلاناً: ذهب صياغاً وخُسراً، فهو باطل، وأبطله هو. ويقال ذهب دمه بطلاً، أي هدراً، وبطل في حديثه بطالة وابطل: هَزَل، والاسم البطل.
والباطل: نقيض الحق والجمع أباطيل، على غير قياس، والبطلة، السّّحرة وقد جاء فيها الحديث: لا تستطيعه البطلة؛ قيل هم السحرة. ورجل بطال ذو باطل. وقالوا: باطل بين البطول وتبطلوا بينهم: تداول والباطل؛ عن اللحياني والتبطل: فعل البطالة وهو اتباع اللهو باطلاً.
ولبطل فلان:جلء بكذب وادعى باطلاً وقوله تعالى:"وما يبدى الباطل وما يعيد".
فال:الباطل هو إبليس أراد الباطل أو صاحب الباطل وهو إبليس .وفي حديث الأسود بن سريع,كنت أنشد النبي صلى الله عليه وسلم فال :اسكت إن عمر لا يحب الباطل,فال أبن الأثير :أراد بالباطل صناعة الشعر واتخاذه كسبلً بالمدح والذم,فأما ما كان ينشده النبي-صلى الله عليه ويلم- فليس ذلك ولكنه خاق ألا يفرق الأسود بينه وبين سائر ه فأعلمه ذلك. والبطل الشجاع وفي الحديث: شاكي السلاح بطل مجرّب. ورجل بطل بين البطالة والبطولة: شجاع تبطل جراحته فلا يكترث لها، ولا تبطل نجادته وقيل، إنما سمي بطلاً لأنه يبطل العظائم بسيفه فبهرجها، وقيل: سمي بطلاً لأن الأشداء يبطلون عنده، وقيل :هو الذي تبطل عنده دماء الأقران فلا يدرك عنده ثائر من قوم أبطال"( ).
وليس المقام في البحث بمتسع لبيان أن ما قد يبدو في الظاهر من فجوات واسعة، واختلافات بينة في دلالات كلمة بطل المنبثقة جميعاً من جذر واحد هو (بطل) وبيان أنها ليست بالمختلفة اختلافاً قسرياً لاصله معه بين دلالة لأنها منبثقة من بواعث واحدة، صادرة من معين واحد، وهي كذلك تمضي إلى صورة واحدة أيضاً.
وهناك جامع يربط بينهما وتلتقي جميعها حوله، ذلك هو النقض وإبطال الفاعلية؛ فالحق يدفع الباطل ويزهقه، وكذبه الشاعر في مدحه أو ذمه هو نقض لحقيقة الممدوح أو الهجو؛ هو كذلك نقض لقناعة السامع أو القارئ، والسحر يقوم على نسخ نشاط إنساني ماء، والشجاعة مناطها التفوق على الخصم، وإبليس يبلس العقول بتقويض دعائم الفكر القويم وسد مسالك السبيل السوي والرؤية الحقة.
والبطولة في الاصطلاح تعني فيما تعنيه تلك القوى المحركة للإنسان في اتجاهاته نحو الأمثل بتخطي الواقع وتجاوز جغرافيته المادية، ففيها تلتقي عناصر الشوق، والرحلة، والتحول، والتطلع، والأنفعة، والإيثار، كما يلتقي فيها جنون المغامرة مع أحلام النصر، وحب الذكر، مما يصعب تشكيله تشكيلا محدداً لأنها في كثير من صورها ممتدة في داخل الإنسان.
وإذا كان المديح، والهجاء، والفخر، والرثاء، والغزل هي أهم أغراض شعر أبي تمام، وهي الأغراض التي تتجلى فيها معالم البطولة وصور الأبطال أن يكثر في شعره ذكر البطل؛ ضمن ذلك قوله :
كم بين حيطانها من فارس بطل قاني الذوائب من آني دم سرب
وقوله:- بل منعرج من فارس بطل جناجن قلعة فيها قنا قصد
وقوله: يردي ويرقل نحو المروتين كما بددي ويرقل نحو الفارس البطل
وقولك- يضرب ترقص الاحشاء منه وتبطل مهجة البطل النجيد
وقوله: قد أترعت منه الجوانح رهية بطلت لديها سورة الابطال
وقوله: ضنك إذا خرست ابطاله نطقت فيه الصوارم والخطيّة الذبل
ويرادف لفظها (البطل) في الشعر الغربي عامة وشعر أبي تمام على وجه الخصوص لفظ (الفارس) وقد بينت ذلك في الأبيات الثلاثة الأولى.
هذه شواهد من شعر أبي تمام على البطل، والبطل الفارس، وفيها تتمثل صورة البطل في شعره، وهو ما سأقول فيه في موضعه من البحث.
فإذا شرعنا في البحث قلنا: إن للبطولة جانبيين: جانب فردي، وجانب جماعي، وهما جانبان متباعدان منفصلان حيناً، وملتقيان مجتمعان حيناً آخر، فهما منفصلات في مجلات وملتقيان في أخر، هما منفصلان عند الحديث عن وقوف الشاعر على الأطلال ووصف الرحلة التي يقوم بها ليصل إلى ممدوحة أو غايته.... وهما مجتمعان عند الحديث عن البطولة في المعارك، أو عن بطولة الكرم أو الإيثار... مما سأبسط القول فيه مفصلاً فيما يلي.


بطل الأطلال والرحلة
قد يتعجب بعض قارئي هذا البحث حين أربط فيه بين أبي تمام ووقوفه على الأطلال ووضعه الرحلة في شعره من جهة وبين ما في الوقوف عللا الأطلال ووصف الرحلة من صور البطولة من دهه أخرى، فيتساءل ما العلاقة بين أبي تمام هذا الشاعر العباسي والوقوف على الأطلال ووصف الرحلة، ثم ما وجه البطولة في الوقوف على الأطلال ووصف الرحلة؟!.
ولستُ أرى مصدر التساؤل الأول غير الجهل بالأدب وضحالة البحث فيه، وبحث الناظر لديه، وأن مصدر وهو سائله بأن الوقوف على الأطلال ووصف الرحلة قضية كانت قصراً على الشعر الجاهلي وأنها انقضت بانقضائه.
وإذا كان تعصب أبي الطيب المتنبي لأصله العربي قد دعاه إلى قوله: فليت بلى الأطلال أن لم أقف بها وقوف شميح ضاع في الترب خاتمه( )
وأبو تمام كذلك شاعر عربي، وقد سبق أبا الطيب بنحو خمسة وعشرين ومائة سنة، وكان قد شهد الصراع الذي قام بين الشعراء العرب من جهة والشعراء الشعبين من الفرس على وجه الخصوص وعلى رأسهم أبو نواس، الذي سعى إلى نقض بناء القصيدة العربية ونبذ ذكر الأطلال، وأن يستبدلوا به ذكر الخمرة,
فأبو تمام والحال هذه أحرى بالوقوف على الأطلال من أبى الطيب و أولى بل لعله والبحتري قد اختصا بهذا؟.
يقول الأخرى:... وهذه طريقة القوم في الوقوف على الديار، ولهم فيها من الأشعار ما هو أشعر وأكثر من أن يحتاج إلى ذكره، وتلك سبيل سائر المحدثين، وطريقة الطائيين ما عدلا عنها ولا خرجا إلى غيرها"( ).
وأما القول في قضية الأطلال والرحلة فإنني أمهد لها بقول الآمدي:" ثم أنا ما علمنا أحد قصد داراً عفت من شقه بعيدة، واحداً كان أو في جماعة، للتسليم عليها، والمسألة لها، ثم انصرفوا راجعين من حيث جاءوا، وإن هذا ما سمع به، ولا هو من أغراضهم، إذ ليس فيه جدوى، ولا يؤدي إلى فائدة، وإن ما وقفوا على الديار وعرجوا عليها عند الاجتياز بها والاقتراب منها لانهم تذكروا عند مشارفتها اوطاءهم فيها فنازعتهم نفوسهم إلى الوقوف عليها والتلوم بها..." ( ).
ليس الوقوف على الأطلال ووصف الرحلة، عبارة عن وصف ظاهري لا مكان متهدمة، ورسوم عبثت بها هوج الرياح، بل هي استجابة لدوافع وجدانية، أو قوى لإدراكية مناطها الوعي أو الأوعى انبقثت من نفس الشاعر صريحة حيناً، أو مرتدة على شكل تساؤلات داخلية حيناً آخر. إنها التعبير عن قلق الشاعر من قضبة الزمن، وصروفه في ماضيه، وحاضرة، وما تخبئه من مجهول في مستقبله الزمن الذي قرنت معانيه، ودلالاته بدلالات القليه والقهر( ).
وإذا كان الناس جميعاً يشتركون في التطلع إلى المجهول، فإن الشعراء من أكثر الناس تطلفا إليه، واستغراقا فيه وهم يشاركون الأنبياء والفلاسفة في نظرهم إلى وجه الحياة ألا قضاها.
فقد اتخذ الشاعر من الأطلال طاقة لمجاوزة واقع متهدم، وانطلاقاً إلى انبثاق حياة جديدة لا تتأتى لهم إلا بالتضحية التي تقدم صورة الموت مولداً لنوع من الحياة التي يحلم بها الإنسان.
الأطلال هي رمز الحياة بأبعادها الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل ونظر الإنسان إليها وصراعه معها وفيها؛ صراع البطل المغامر، ومجابهة الفارس المتحدي، أو استسلام الخانع، وتكوص الجبان.
والرحلة هي رحلته في هذه الحياة وهمته فيها أرادته لديها، همة البطل، أو قعود الصاغر.
وصراع الإنسان عموماً، والشاعر على وجه الخصوص مع الزمن –أو الدهر- والحياة، أرادته لديها، وهمته فيها صورة من صور البطولة، كما أن الرحلة، وما يقطعه فيها من مغاوزه وما ترتفع به من روابي، وما تنحط به من شعاب، أو تتقاذفه من حروب، أو تتهاده من تنائف أو يتربص به من وحش أو عدو وما في الوقوف على الأطلال من وحشة الانفراد.........
كلها آيات شجاعة، وصور بطولة.
ولقد قال أبو تمام في الزمن والدهر:-
1- طلبته أيام وطالبت مثلها أخرى قلإصبح طالباً مطلوباً
2- هي عزمةُ كالسيف إلا أنها جُعلت لأسباب الزمان قضوباً
3- خطيت خطوب الدهر منه خُطةً نتجت عليه تجارباً ونكوباً
4- صرمت حبال الدهر منه صرمة تركت بقلب النائبات وجيبا
5- ولربما استبكته نكبة حادث نكات بباطن صفحتيه ندوبا
ومن شعره في الوقوف على الأطلال قوله:
1- ازعمت أن الربع ليسى يتيمُ والدمع في دمنٍ عفت لا يسجمُ؟!
2- يا موسم اللذات غالتك النوى بعدي فربعك للصبابة موسم!
3- لحظت بشاشتك الحوادث لحظة مازلتُ أحلم أنها لا تسلم
4- أين التي كانت إذا شاءت جرى من مقلتي دمعُ يعصفره دم ؟
5- يستعذب المقدام فيها حتفه فتراه وهو المستميت المقلمُ
6- إن كان وصلك آض وهو محرّم منك الغداة فما السّلوُّ محرم
7- عزم يفلًّ الجيش وهو عرمرم ويرد ظفر الشوق وهو مقلّم
8- وفتى إذا ظلم الزمان فما يُرى إلا إلى عزماته يُتظلم!
ذكرت آنفاً أن وقوف الشاعر على الأطلال ضرب من ضروب البطولة، وبينتُ أجلى أوجه هذه البطولة وذلك بأن الأطلال رمز؛ بل رموز الصراع الإنسان مع الزمن في ماضيه المتهدم المنصرم، جعله والحاضر المعاش منطلقين إلى مستقبل يطفح سعادة ويفيض بُلَهنيةً.
وهل المصارعة والصراع وما يستلزمانه من الشجاعة وشدة البأس، ويقتضيانه من الجلد وقوّة الاحتمال غيرُ ضرب من أضرب البطولة، وآية من آيات الإباء؟.
وهذه أبيات لأبي تمام استهل بها إحدى قصائده، ومد بدأها بالوقوف على الأطلال وقوفاً لم سشأ أن يجعل نفسه منه وحيداً فتقتله وحشة الوحدة وآلام الغربة- قلق جرد من نفسه صاحباً، استث وتسريه على نفسه... وراح بسائله مستعملا الفعل الماضي الذي يفيد استغراق الزمن بأبعاده الثلاثة، مستنكراً زعمه بأن مشاهد الديار لا تثير عواطف الصب أو يبعث جوا من الأشجان؛ فيستجيبوا لما به غزير الدمع يسفحه مدراراً إنه يبكي على عهود الوصل التي مضت وأيام التلاقي التي انقضت وفي الدموع إطفاء لما به من غلة الأشواق ومر الصبابة وهي ديار وعهود جدّ عزيزة؛ يستحيي بها الفارس والشجاع، فتراه يقوم عليه مدحجا بالسلاح. وهو صابر على كل ما به يحس ولما له يلقى من لواع الأشواق وكوامن الوجد، وبتاريخ الجوى... فلئن غدا وصل فتاته محرماً عليه فسلوه عنها ونسيانه لها ليس بمحرم .......إنه سيلقاها بما تلقاه به وسبباً لها بما به تبادله؛ وصلاً يوصل وسلواً بسلو؛ وهو سلوّ كمي باسل ذي عزم شديد يشتت جموع الجيش الهمام، فارس إذا شكا فليس بشاكٍ إلا إلى شدّة بأسه، ومضاء عزمه.
ومن شعره في ذكر الديار ووصف الرحلة قوله:-
1- نُسائلُها أي المواطن حلّت وأي ديار أوطنتها وأيت
2- وماذا عليها لو اشارت فودّعت إلينا بأطراف البنان وأويتِ
3- وما كان إلا أن تولّت بها النوى فولى عزاء القلب لما تولتِ
4- ولمّا دعاني البين ولّيت إذ دعا ولما دعاها طاوعته وليَّت
5- ومجهولة الأعلام طامسة الصوى إذا اعتسفتها العيس بالركب ضلَّت
6-تعسفتها واللّيل قلقٍ جرانه وجوزاؤه في الأفق حين استقلت
وهذه أبيات هي مطلع إحدى قصائده، وقد بدأها بسؤال ديار فتاته التي صعنت عنها: إلى أي ديار رجلت، وأي ديار حلت. مستعملاً ضمير الجمع؛ مخففاً به عن نفسه ما يعانيه ويكابده- معاتباً فتاته عتاب الغائب على عدم وداعها إياه قبل الرحيل، وإن يكن وداعاً بادئي إشارة مستعملاً ضمير الاستفهام الدال عما به من آلام المنبئ بما هو فيه من أحزان، وما إن فارقته قتاته وابتعدت حتى فارقه صبره لفراقها، ولقد كانت فتاته متأبية عليه مدلّه تياهه متمنعة مما كان يدعوه إلى مفارقتها، ولكن قلبه لم يكن ليطاوعه في ذلك، أما هي فسرعان ما طاوعها قبيها ققارقته.......... وبعد أن وصف رحلة قطع فيها فلاة قفراً غير مأنوسة "لم يعرف بها ساكن رسماه إذا سارت بها النياق ضلت؛ اذ العلامات فيها ولا هادي لديها. ولقد سار في هذه الفلاة سيراً شديداً، وكان الليل قد أرخى سدوله، وهو في ذكره الليل شبه بجمل ضخم قد برك على حسه- وهو ما يذكرنا بقول امرئ القيس( ):-
فقلت له اما تمطى بصلبه واردق إعجاز وناء بكلكل
وقرن الليل بنجوم الجوزاء ومعلوم أن شعراء الجاهلية على وج الخصوص كانوا يقرنون بين ذكرها وبين المطر والناقة التي كانوا يشبهونها بثور الوحشي، ثم يذكرون صائداً وكلابه، ثم يقمون معركة بين هذا الثور والكلاب، وكانت هذه المعركة تنقضي بانتصار الثور في أغلب الأحاديث.
ولكن أبا تمام لم يفعل فعلهم بل اكتفى بما كان أحدهم يطلقه على ناقته من أوصاف الضخامة والقوة والنشاط.
إنها أبيات كل ما فيها بطولة فالصبر ضرب من أضرب البطولة والرحلة التي قلنا لأنها رحلة الإنسان في هذه الحياة وهمته فيها وإرادته لديها وما تقتضيه من الشجاعة في مقارعة الأيام والبطولة في مجابهة صروف الزمن. والسير في هذه الأرض القفر وفي هذا الليل إليهم بطولة تلتقي ببطولة، وإسقاط الشاعر على ناقته هذه الصبغات، وليس الناقة إلا ما يرافق الإنسان من عزم وهمة في مسيرة في دروب الحياة، وضخامتها وفوتها ونشاطها تعبير عن هذا العزم ودلالة عليه، وهل يستطيع حمل الضخم إلا ضخم ضله؟!



البطولة في الخمر
ارتبطت الخمرة بالشعر العربي بالفتوة والشباب، وهما مقدمة عناصر البطولة وأول إمارتها وأولى لوازمها؛ فقد كان ملء الحياة بالملذات دليل وجود دائم وعنصرا لا ينفعل من الحماسة والبطولة كما كانت كذلك مظهراً من مظاهر الاحتجاج في وجه الزمن لقد بدأ عمرو بن كلثوم ملحمية بذكرها كما نعت الأعشى نداماه بالفتية؛ وذلك قوله:-
وقد أقود الصبا يوماً فيتبعني وقد يصاحبني ذو الشرة الغزلُ( )
في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعلُ
نازعتهم فصب الريحان متكئاً وقهوة ملزّة راووقها خضلُ
كذلك فقد بدأ حسان بن ثابت قصيدته قبل فتح مكة بذكرها فقال:
نوليها الملامة إن المنا إذا ما كان مفت أو لحاء( )
ونشر بها فتتركنا ملوك وأسد ما ينهنهنا اللقاء
ثم قال: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداءُ
وقد اجتمعت هذه المعاني في قصيدة لأبي تمام يقول:-
أصيب بعميّا كأسها مقتل العذل تكن عوضا إن عنفوك من الثبل
وكاس كمعسول الأماني شربتها ولكنها أجلت وقد شريت عقلي
إذا عوتبت بالماء كان اعتذارها لهيبا كوقع النار في الحطب الجزل
إذا هي ديّت في الفتى خال جسمة لما دبّ فيه قرية من قرى النحيل
إذا ذاقها وهي الحياة رأيته يُعّبس تعبيس المقدم للقتل
إذ اليد نالتها يوتر توقرت على ضعفها ثم استقادت من الرّحل
ويصرع ساقيها بإنصاف شربها وصرعُهمُ بالجور في صورة العدل
وصف فيها تعذر الرزق عليه بمصر، وهل تعذر الرزق غير شدة يقتضي مواجهتها الصبر والحزم، بل مصيبة تستوجب مجابهتها السعيّ، والجدّ، والعزّم؛ وهل الصبر والعزم والسعي والجد والحزم إمارات الشجاعة وضروب بطولة، قدّم لها بذكر الخمرة؟!.
لقد بدأها مجرد من نفسه صاحباً؛ تسربه عن نفسه وتقويه لهمته، وراه يخلطبه طالباً إليه أن تشربها؛ ففي شربها الثأر ممن له ثأر لديهم من المقرعين من الناس، أو من صروف الزمن مشبعا إياها بالأحلام الجميلة والاماني العذبة، ناعتاً شاربها بـ(الفتى) مشبها إياه بما تبعثه فيه من الصحة والنشاط والسعي بقربه النحل، وما تجعله فيه من الآباء بحث يستعد للقتل غير مبالٍ.

وقال في قصيدة أخرى
اصبري أيتها النفس فإن الصبر أحجى
نهني والحُزن فلإن الخزن إن لم ينه لجى
والبسي الباس من الناس فإن الباس ملجا
طلعت شمس علينا من دنان تتوجا
لذة الطعم تمج للسك في الأقدام حجا
كست الشيخ شباباً فأكتسي شكلاً وغنى
فقضينا منسك اللهو وإن لم ننو حجا
بدأ أبو تمام هذه القصيدة مخاطباً نفسه طالبا إليها أن تصبر وتتجلد وأن يطرح الأحزان؛ لأن المرء إذا لم يتطرح الأطراف تمادت به وفي إيلامه.
وهذا المعنى قريب من قول الشنفري:-
أديم مطال الجوع حتى أميته وأضرب عنه الذكر صفحاً فأذهل( ) ويشيد تماماً قول إيليا أبي ماضي.
وإذا ما أظل رأسك هم قصر البحث فيه كي لا يطولا ( )ثم انتقل أبو تمام إلى وصف خمرة شربها في جماعة من أصحابه مشبها إياها بالشمس، واصفاً تأثيرها في مشاربها فهي تجعل من الشيخ شاباً يرقل بالحيوية ويزدهي بالنعومة ناعتاً فعلهم هذا بقضاء أحد المناسك.
بطل الكرم
الكرم من أجلّ الصفات وأسمى الشمائل، وانبل الخلال التي يتجلى بها الإنسان عموماً والعربي على وجه الخصوص.
ولقد تكرر لفظ الكرم ومشتقاته في الكتاب العزيز ثمانياً وأربعين مرة, وكثيراً ما فرت المولى- تقدّي أسماؤه- الجود بالنفس –وهو أسمى غاية الجود- بالجود بالمال.
وإذا كان أكثر شعر \أبي تمام في المديح والرثاء- كما أسلفت- فيد هيّ أن يكثر فيه ذكر السخاء والكرم والجود وهل يستحق المديح من خلال من هذه الصفة الجلية والخلّة العليّة.
ومن شعره في ذلك قوله في مدح المعتصم:
إلى قطب الدنيا لو بفضله مدحت بني الدنيا كفتهم فضائله
من البأس والمعروف والجود والتقي عيال عليه رزقهن شمائله
هو اليم من أي النواحي أتيته فلحية المعروف والجود ساحله.
يفود لسط الكف حتى لو انه تناها لقبض لم تجبه أنامله
ولو لم بكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
عطاء لو اسطاع الذي تستميحه لاصح من بين الورى وهو عادله
فالموضوع قطب الدنيا وموضع القسطاس منها، ولو عدّت كلّ فضائل أهلها لزادت فضائله على فضائلهم جميعاً. وهو جماع الفضائل تلّها؛ من الشجاعة والإقدام والإحسان والجود والورع، بل هو مصدرها ومعينها وهو بحر الجود يعمّ به الأرجاء إنه أصل الجود وأوانيه ومنابع السخاء ولقد تعوّد أن تظل كفّه مبسوطة بالجود والمعروف ممتدة بهما أولاً حتى لا تكاد أنامله تطيعه في إمساك، حتى وإن لم يكن لديه غير نفسه يجاد بها؛ ولذا فليقف الله سائله وهو فيض جود يكاد من يناله وافر هذا الجود أن يلومه على كثرة ما أعطاه
وقال يفخر بقومه من بني طي
نجوم طوالع جبال فوارع غيرت هوا مع سيول دافع
نصرا وكأن المكرمات لديهم لكثرة ما أوصلوا بعين شرائع
فأي يد في المجد قدت فلم تكن لها راحة من جودهم وأصابع
بها ليل لو عانيت فضل أكفهم لايقنت أن الرزق في الأرض واسع
إذا خفقت بالبذل ارواح جودهم حداها الندى واستنشقها المطامع
رياح كريح العنبر المحض في الندى ولكنها يوم اللقاء زعازع
لقد شبه قومه بالنجوم إشراق أسوار ولآلاء هدايه، وكثرة عديد وشهرة حيث وبُعد ذكر، وعلو مكانه وسمو منزلة وهو قد جمع (طالع) على طواليع؛ كما جمع (هامع) على هواميع) امعانا في التكثير.
ولقد كانت المكارم فيهم بمنزلة الشريعة والعقيدة والمنهاج، فهوا عليها وأوصوا أسلافهم باتباعهم في السير عليها ليس في الأرض جود الا وهو فيض جودهم، ونيع سخائهم وإذا عاين أحد كثرة ما يبذلون ومدى مابه يجودون لأيقن لغيضه أن الخلق جميعاً أغنياء، وأن رياح جودهم ليوجد من مسافات بعيدة وهي رياح معطرة بشذى العنبر الخالص، ولكنها تستحيل عند مقارعة الاعداء ربحاً هوجاً عاتيه.
بطل المعركة وما فيه من صفات الشجاعة والآباء والسؤدد قال في فتح عمورية:-
كم بين حيطانها من فارس بطل قاني الذوائب من آني دم سرب
بسنة السيف والخطي من دمه لاسنة الدين والإسلام مختطب
لقد تركت أمير المؤمنين بها للنار يوماً ذليل الصخر والخشب
تدبير معتصم بالله منتقم لله مرتقب في الله مرتقب
ومعظم النصر لم تكهم أسنته يوماً ولا حجبت عن روح فحتجب
لم يعز قوماً ولم ينهد إلى بلد إلا تقدمه جيش من الرّعب
لو لم يقد جحفلاً يوم الوغي الندي من نفسه وحدها في جحفل الجب
لبيّت صوتا بطرياً هرقت له كأس الكرى ورضاب الخرد العُرب
عداك حر الثغور المستضامة عن برد الثغور وعن سلسالها الخصب
أجبته معلنا بالسيف منصلتا ولو أجبت بغير السيف لم تجب
حتة تركت عمود الشرك منعفراً ولم تعرج على الاوتاد والطنب
إن الأسود أسود الخيل همتها يوم الكريمة في المسلوب لا السلب
خليفة الله جازي الله سقيك عن جرثومة الدين والإسلام والحسب
فبين ايامك اللاني نصرت بها جرثومة الدين والاسلام والحسب
فبين ايامك اللائي نصرت بها وبين أيام بدر أقرب البسي.
وقال يرثي محمد بن حميد الطائي:-
كذا مليجل الخطب وليفدح الأمر فليسب لعين لم يفض ماؤها عُذرُ
توفيت الآمال بعد محمد واصبح في شغل عن السفر السفر
وما كان الآمال من قل ماله وذخرا لمن أمس وليس له ذخر
وما كان يدري مجتدي جود كفه إذا ما استهلت أنه خلق العسر
مني كلما فاضت عيون قبيله دما صحكت عنه الاحاديث والذكر
وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنال السمر
وقد كان فوت الموت سهراً فرده إليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر
ونفس تعاف العار حتى كأنه هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر
فأثبت في مستنقع الموت رحله وقال لها من تحت أخمص والحشر
تردى ثبات الموت حُمرا مما اتى لها الليل الا وهي من سندس خضر
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحرّ ليس له عمرٌ
هذه مقتطفات من قصيدتين هما من عيون الشعر العربي ولو قدر أن يكون لي من الأمر شيء لأمر جبت حفظهما على كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.
وقد جمعتهما معاً، مخالفاً بذلك في دراستهما النهج الذي سرت عليه ولقد ترتبت في اختبار الآبيات ريثاً امتد زمنا غير قصير.
فأما أولاهما فقد قالها أبو تمام في وصف إحدى معارك الإسلام الخالدة؛ هي فتح عمورية، تمجيد بطل من أبطاله العظام؛ هو المعتصم وقد مهّد لمدحه بوصف جنود الأعداء بالشجاعة والأقدام ولا عجب فإن في وصفهم بهذه الصفات مدحاً غير مباشر للقائد وجيشه الذي قتدهم أو أسرهم أو انتصر عليهم إنهم أبطال في الغاية من البطولة فهم قد ثبتوا في ساح الوغى فوقع الضرب في رؤوسهم لا في أعقابهم فأخذت ذوائبهم تسبل دماً أحمر قانياً.
ولقد حضيت ذوائبهم بالدم وهي سنة السيف والرمح، لا بالخضاب الذي هو سنة الإسلام.
وانتقل بعد ذلك مباشرة إلى ما فعله المعتصم بهذه المدينة وما كان إحراقه إياها، جزاء وفاقاً على ما جنته أيدي أهلها وملكهم من أذى للمسلمين وهي نار حامية الوقد شديدة اللظى قد أحرقت بلهيبها الخشب والصخر.
وهو بعد أن وصف ما حل بهذه المدينة من النكبات التي ردّت بها كرامة هذه الأمة و عزتها، وما كان لذلك من وقع إثلاج صدور المسلمين، شرع في مدح المعتصم؛ فهذا النصر المؤزر قد تم بفضل حنكة القائد وسديد قيادته، وهو فتح وجهاد لم يرد به غير وجه الله تعالى. ولقد كان في النصر مخمصة فاسبقها الممدوح من جيدا سنته التي لم تعرف الغل ولا الكلّ، ولم تغمد عن بغية. والقائد مكلل بالنصرة تسبقه المهابة ، فهو لم يقد جيشاً إلى معركة إلا دب الخور في قلوب أعدائه بمجرد علمهم بمسيرة وهو كذلك مهيب مهاب حتى لو كان مفرداً ليس معه جيش؛ فهو جيش وحده.
ثم التفت الشاعر، مشرع في خطاب القائد؛ مشيراً إلى المرأة العربية التي استفانت به، وسرعة هبته لنجدتها محرما على عينيه طعم الغمض وعلى نفسه ملذات الحياة ومتع الدنيا، من الفتيات الحسان.
لقد صرف القائد انشغاله بحفظ ثغور الإسلام عن سائر الملذات ولقد أسرع مستجيبا لاشتغاله هذه المرأة بالسيق؛ وما كان مثله بمن يستجيب بغيره وفعل بالمشركين ما فعل والحق بهم العزيمة النكراء، ولقد كان همه النصر، لا شيء سواه فهو لم يلتفت إلى سبي أو مغنم ولإن الأبطال –الذين شبههم بالأسود هو منهم وغايتهم مقارعة الأبطال، لا اكتساب الغنائم.
ثم شرع في الدعاء إلى القائد بأن يجزيه الله جزاء المصطفين الأخبار عما فعله في سبيل عزة الإسلام ومنعة المسلمين وختم بتشبيهه النصر في عمورية بانتصار المسلمين الأوائل
-رضوان الله عليهم –في غزوة بدر.
أما الآبيات الأخر فأنها مقتطفات من قصيدة رثى بها أحد أبطال الإسلام من قومه.
وقد استشهد في إحدى معارك المسلمين مع أحد أعداء الإسلام من الزنادقة والشعوبيين؟ هو بابك الخزميّ
وقد بدأها بذكر هذا المصاب الجلل الذي حل باستشهاد هذا البطل وما يستوجبه فقده من سفح الدموع الفزار، وهو فقد لاعذر معه لعبت إن لم تبكي وذكر بعد ذلك أثر استشهاد هذا الفارس، فقد ماتت بموته آمال كل من كن بأمل به شيئاً ورجا، من كان يرجو به أمراً. ولقد شغل الناس بموته شغلاً افقدهم عن أعمالهم، ولقد كان البطل المرئي عون كل محتاج وسند كل راج، لقد كان هذا الفارس في الغابة من الجود حتى كان من كان ينال خبرة لم يكن يعلم أن في شيئاً اسمه الفقر ولقد مات هذا البطل في ساحة المعركة بين ضرب السيوف وطعن الآسنة ميتة تشرف كل من كان معه من الجنود فكأنهم منتصرون حتى لو لم يكونوا قد انتصروا ولقد كان يمكنه البقاء حياً لو شاء، فلم يشترك في معركة أو يخطب غرار معمعة إلا أن يكون فارساً مجاهداً مستشهد.
وهو قد جهز نفسه لهذه المعركة وليس لها ليدسها وغدت انوابه من كثرة ما سالت عليها من الدماء حمراً، فنال الشهادة فابدله له بثيابه الحمر ثياباً من سندس اخضر وهو لباس أهل الجنة.
5- صورة أخرى للبطولة والأبطال
1- البطل مرفوع الراية أبداً؛ ويتجلى هذا في قوله:-
شوس إذا خفقت عقاب لوائهم طلت قلوم الموت منهم تخفق
2- وهو من تهابه حتى الجن؛ نحو قوله
رميت بمن لو ان الجن ترمى به لتنهيتها الانس نهيا
وهو كذلك جواب فلوات بعيد الصيت طائر الذكر
فكاد بأن يرى للشرق شرقاً وكاد بأن يرى للغرب غرباً
3- وهو شديد الفتك، فكأنه الصلّ من الحبات
تجد صلا تخال بكل عضو له من شدّة الحركات قلب
4- وهو صلب كالصخرة الصماء
يا ابن الخبيثة لا تعرض صخة صماء من مجدي برض زجاج
5- البطل نجم علوّ مكانه وسمو منزلة:-
بنو عبدالكريم نجوم عز تر في طيء أبداً تلوح
بدور المظلمات إذا تنادوا وأسد الغاب ازعلها الركوب
6- البطل رحيم يعفو عند المقدرة.
ناكث للعهد قد نكثت به امانيه واستخدمت الحقل باطله
فأمكنته من رمة العفو رأفة ومغفرة إذا مكنتك مقاتله.
حـ- البطل قنوع
وكنت أعزّ عزّاً من قنوعٍ تعوضه صفوح عن جهول
ط-البطل جلد صبور
ما يحسم العقلُ والدنيا تساس به ما يحسم الصبرُ في الأحداث والنّوب.
الصبر كاسٍ وبطن الكفّ عارية والعقل عارٍ إذا لم يُكس بالنشب
ي- البطل عادل:
جلا ظلمات ظلم عن وجه أمّهٍ أضاء لها من كوكب الحقّ آفلة
وقام فقام العدل في كلّ بلدةٍ خطيباً وأضحي المُلك قد شقّ بازله
ك- البطل أصيل النسب كريم المحتد
وما فضل العتاق إذا ألظت بها وتأثلت فيها العيوب
أتمتحق القسيّ بغير نبلٍ أيخطس مبتليها أم يصيب
ل- البطل ذو هيبة
قد أترعت منه الجوانح رهبةً بطلت لديها سورة الأبطال
لو لم يزاحفهم لزاحفهم له ما في صدورهم من الأوجال
م- البطل صادق في وعده ووعيده:
يستعذبون مناياهم كأنهم لا ييئسون من الدنيا قبلوا
قوم إذا وعدوا أ أوعدوا عمروا
صدقاً ذواب ما قالوا بما فعلوا
ن- البطل حازم نيّر الفكر سديد الرأي

يحميه حزم لحزم البخل مهتضم
جوداً وعرض لعرض المال مبتذل
فكر إذا راضه راض الأمور به
رأي تغض فيه الريث والعجل
هذه وما تقدّم أحلى صور البطل في شعر أبي تمام، أبرزتها في هذا البحث، وهو عمل طالب وجهد متعلق مازال يحاول العوم في شاطئ هذه اللغة العليّة، وفي ساحل أدبها أختمه بتقديم أجلّ آي الشكر وأسمى معاني التقدير إلى أستاذي الكريم، وزملائي الأعزاء والله وليّ توفيقنا جميعاً وهو حسبنا ونعم الوكيل ومولانا ونعم النصير.

المراجع:-
1-أبو تمام، فنه ونفسيته من خلال شعره: ايليا حاوس، دار الثقافة بيروت، ط1، 1989.
2-ديوان أبي تمام
3-ديوان أبي الطيب المتنبي، بشرح أبي البقاء العكبريّ، ضبطه وصحيحه، مصطفى السقا وآخرون، دار المعرفة، بيروت، 1978م.
4-ديوان الأعشى الكبير، تحقيق، د. محمد حسين، مكتبة الآداب بالجماميز، د.ت.
5-شرح ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، وضعه وضبطه وصححه: عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1981م.
7-الموازنة بين أبي تمام والبحتري، تصنيف :الحسن بن الشر الآمدي، حقق أصوله: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العلمية، بيروت.
سبحان الله وبحمده